Foto: Samah Al-Shaghdari
4. مارس 2023

جاري الذي لا أره في الشتاء!

بشكل عام، الشتاء ممل في ألمانيا، ويمضي الناس خلال هذه الفترة معظم وقتهم داخل البيوت! وغالباً ما تسمع عبارة ليس لدي وقت طوال العام، حيث يكون الفرد إما مشغول بنفسه، أو بأعماله إن كان موظفاً.

منذ ثلاث سنوات، انتقلت إلى سكن مستقل، ويعيش بالبناء أناس من بلدان مختلفة، أسكن في الطابق الأول، ولدي حديقة صغيرة، أقضي فيها ساعتين بعد العصر كلما سمح لي الوقت خلال فصل الصيف كي أرمي حمل التعب، واستمتع بدفء أشعة الشمس. ما يميز الألمان أنهم يعشقون الطبيعة، ومن لا يملك حديقة في البيت أو شرفة، يقوم باستئجار رقعة أرض زراعية صغيرة، قد لا تتجاوز مساحتها

بضعة أمتار مربعة، حتى يتمكن من الاهتمام بها وزراعتها، وتعليم أطفاله مبادئ الزراعة، والاستمتاع بالطبيعة. شرفات المنازل هي الأخرى تُخصص لزراعة أجمل أنواع الأزهار، وتحظى بمستوى رعاية فائق، ومن بداية شروق أشعة الشمس في فصل الربيع وحتى آخر أيام الصيف يحرص الناس على العناية بأشجارهم، والاستمتاع بأوقاتهم في الهواء الطلق. وتعتبر أعمال البستنة مهمة في ألمانيا، وعلى كل شخص أن يهتم بنظافة وترتيب حديقته، وإلا سيتعرض لدفع غرامة مالية! لكن يجب ألّا تكون أعمال البستنة يوم الأحد، لأنه يوم يسود فيه الهدوء ، ويرتاح الناس من عناء أسبوع كامل..

عندما انتقلت إلى السكن الجديد كنت أحمل هم أعمال الحديقة، خاصة أن البحث عن بستاني ليس بالأمر السهل، كما أن تكلفة عمله لا تقل عن 50 يورو في اليوم الواحد، ولهذا تركت المسألة للوقت وحتى أنتهي من ترتيب الشقة، وإنجاز الأعمال الهامة، إلا أن ترتيب الحديقة كان يشغلني دائماً، مع علمي بعدم مقدرتي على فعلها لوحدي بسبب ظرفي الصحي.

وذات يوم تفاجأت بجاري غايف، الذي يعيش مع زوجته ليانا بجواري في الطابق الأرضي يسألني، هل ستكونين غداً الساعة العاشرة في المنزل؟ فأجبته نعم، قال لي متى تستيقظين من النوم؟ سألته لماذا؟ فردّ أنه يريد أن يقص أعشاب الحديقة ويُقلم الأشجار، ولا يريد أن يزعجني وأنا نائمة بصوت مكنة جز العشب. اندهشت من هذا اللطف، واعتبرت نفسي محظوظة لأنه سيجز العشب بدلاً مني هذا الشهر، لكني لم أكن أعلم أن هذا العرض سيستمر إلى يومنا هذا، ففي كل مرة ينتهي من تنظيم حديقته، يخبرني أنه سيقوم اليوم التالي بالعمل في حديقتي.

غالبا ما أظل أراقبه وهو يقوم بالعمل، وتشعرني طريقة عمله بطاقة إيجابية كبيرة، يدهشني تركيزه وحرصه وتفننه في أعمال البستنة، التي تجعل الحديقة تتحول إلى واحة جميلة ومتجددة، وكأن أصابع رسام أعادت ترميم مفاتنها.  ينشرح صدري عند رؤية جاري، وفي كل مرة أراه يعمل، أشعر أن العالم مليء بالخير، لكن الشتاء دائماً ما يحرمني من هذه الطاقة الإيجابية، فبسبب برودة الجو تتساقط أوراق الأشجار، ابتداءً من فصل الخريف، ولا أرى جاري وزوجته خلال هذه الفترة..

يتوقف جاري عن العمل بالحديقة، لكني أفتقده كثيرا، أفتقد تفانيه بتنظيف الحديقة، وتنظيمها وتخطيطها وكأنه مهندس زراعي ماهر، يخضع لامتحان تقييم الأداء، أو فنان يرسم بريشته جمال ورود الحديقة ويزيدها جمالاً وتألقا. جاري خدوم جداً، ولا يساعدني في ترتيب الحديقة فقط، بل أيضا بإصلاح أي جهاز يتعرض للعطل، وما يدهشني أنه على الرغم من كبر سنه، إلا أنه يقوم بكل الأعمال بنفس الإخلاص والتفاني.

كل شتاء أفتقد جاري، وأفتقد حبه للعمل، والمنظر الجميل الذي يتركه وراءه بعد ساعتين أو ثلاث من العمل، لكن فصل الربيع الآن على الأبواب، وأنا سعيدة أني سوف أره مرة أخرى، يرسم المنظر الجميل مجدداً. فكرة العمل التطوعي لها مكانة كبيرة بين الناس في ألمانيا بشكل عام، ولا تكاد تخلو مسيرة حياة أي فرد من المشاركة في الأعمال الطوعية في كافة المجالات ومنها الزراعة التي تجعل المتطوع يساهم في نشر المناظر الطبيعية الجمالية، وحماية البيئة.