illustrations: Noah Ibrahim
17. فبراير 2021

منذ عشر سنوات.. “فطنت أن صوتي مهم”

كنت معصوبة العينين وقتها، أقف بمحاذاة جدار بارد في مكتب بارد جدا، برجلين حافيتين إلا من جوارب سوداء شفافة تمزقت خلال الساعات الماضية من جراء الضرب والتعذيب، فجأة حدثت فوضى في المكان، الشرطيات والضابطات كُن يُرتِبن لزيارة شخص من الواضح أنه أعلى رتبة منهن، كن يهمسن لبعضهن البعض، ضعي هذه المعتقلة هنا، وتلك هناك، وعندما تعلق الأمر بي، قالت إحداهن للأخرى: دعيها ترتدي السترة، إنها ترتجف من البرد.

عندها جُلبت لي سترتي، وطُلِب مني أن أرتديها، بدا البرد أخف قليلا حينها، عندها فُتح الباب، فأنا أرصد ما حولي بإحساسي بالمكان الذي خزنته ذاكرتي عندما كنت مبصرة ومعتمدة على حاسة السمع، كنت أعرف أن الباب على يساري، ومن هناك جاء الصوت، دخل الشخص المهم، الكل وقف وألقى التحية العسكرية وكانوا ينادونه بـ”سيدي”، تحدث معهن قليلا، دار نقاش حول إحدى المعتقلات، ثم علا صوت خطواته باتجاهي، إلى أن أحسست بحذائه العسكري يدوس قدميّ، أنفاسه كانت قريبة جدا من وجهي، همس في أذني: لماذا قلتِ أننا نقتل المتظاهرين؟ أجبت بعفوية، كما قضيت كل ذلك اليوم، أجيب وأناقش، وكأن كانت هناك فائدة من كل ذلك،: “رأيتهم بأم عيني يقتلون”، رد: “وإذا رأيتهم، لماذا تقولين؟”، إجابة أخرى غبية مني: “لأنني صحافية”، أنهى الحديث، وهو يدوس أكثر على قدميّ: “وإذا كنتِ صحافية؟! هذا لا يعطيكِ الحق بتشويه صورة البلد”.

عندها فطنت وربما للمرة الأولى أهمية صوتي، صوتي الذي كان حرا، ولم تخيفه الدبابات أو الاعتقالات، وأن كل ما يحدث في هذا المكتب والمكاتب المجاورة من تعذيب وضرب وإهانات منذ ساعات طويلة جدا، ما هو إلا طريقتهم في إسكات صوتي، وصوت الصحافة الحرة المستقلة، عندها قلت في قرارة نفسي: “لن أسكت”.

منذ عشر سنوات وأنا انتقي متى أتكلم، وأنتقد وأثر الموضوعات ولكنني لم ولن أسكت خوفا من السلطة البوليسية أو الدينية أو الذكورية، لن تسكتني الفاشية، أو الطائفية أو التطرف، حتى إنني اضطررت لترك بلدي والعيش في المنفى لإبقاء صوتي وقلمي حيّين.

على مدار السنوات العشر التي تلت ذلك التاريخ، مايو (أيار) ٢٠١١، تمسكت أكثر بهذا المبدأ، “لن أسكت”، وأصبحت مدافعة عن حرية الصحافة والتعبير، أغضب لإسكات أي صوت في أي مكان في العالم، أغضب لتكميم أفواه المعارضين والمختلفين في الرأي والأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية، أدافع عن الصحافيين/ات الذين أتفق معهم/ن، وأولئك الذين لا أتفق معهم/ن، عن السياسيين/ات الذين اتفق معهم/ن وأولئك الذين لا أتفق معهم/ن.

كان هناك عامل مشترك بين كل تلك الانتفاضات والثورات وحركات الاحتجاج التي انطلقت قبل عشر سنوات وبعضها مستمر حتى اليوم، وبعضها أنطلق لاحقا، وبعضها عادت لتحتج من جديد، هو أنه أصبح لنا صوت، صوت يُخيف الديكتاتورية، يُخيف التطرف، أدركت الشعوب أن لها صوت، وأن صوتها مهم ويجب أن يكون مسموعا.

قد يكون ذلك محل جدال، خصوصا مع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل شريحة كبيرة من سكان هذه المنطقة والتي نشرت إلى جانب مبادئ النقد والحرية والديمقراطية، أصبح بعض ليس بالقليل منها صوتا للكراهية والتحريض وبوقا للحروب والطائفية والتشدد، إلا آن صار الخط الفاصل بين حرية التعبير والصحافة والتحريض وخطاب الكراهية واضحا وضوح الشمس لمن أراد أن يبصر.

من أهم مسئوليات الصحافة الحرة إنها السلطة الرابعة التي تشكل وعي الناس ورأيهم، وأن الإخلال باستقلالية الصحافة وتكميم الأفواه هو مرآة للديكتاتورية أو الديمقراطية العرجاء في بعض الأحيان، لذا ليس من الصعب أن نتعرف على الأصوات المستقلة والأبواق المأجورة.

  • نص للصحفية البحرينية نزيهة سعيد
  • illustrations: Noah Ibrahim

إقرأ أيضاً: