فتحت لاريسا نافذةً للكُتَّاب والأّدباءِ العرب إلى المجتمع الألماني، وخلال 30 عاماً من عملِها في الترجمةِ من اللغةِ العربيةِ إلى الألمانية، شاهدت الفارق الكبير بين الثقافتين، ولاحظت في نفسِ الوقتْ سرعة انتشار الأدب العربي في المجتمعِ الألماني خلال السنوات الثمان الأخيرة، وزيادة الحضور للكُتَّاب العرب في الفعالياتِ الثقافيةِ داخل ألمانيا، كوسيلةٍ للاندماج في المجتمع الجديد عبر جسر اللغة.
لغة ثانية.. ثقافة مغايرة ومختلفة
اجتهدت لاريسا في تعلم اللغة العربية كلغةٍ ثانية من أجل أن تتعرف على ثقافةٍ مغايرةٍ ومختلفة، ولأجل ذلك سافرت إلى عدةِ دول عربية منها سوريا التي كسرت فيها حاجز اللغة والثقافة وتزوجت سورياً. فمكَّنها ذلك من تجاوز صعوبة لغوية عانت منها وهي صعوبة تحدُث العربية بطلاقة. فكانت الحياةُ في سوريا رافعتها لتجاوز جدار اللغة المنطوقة.
لاريسا لا تتعامل مع الترجمة كمجردٍ مهنة جامدة أو وظيفة عملية. بل تراها وسيلةً لنشرِ السلامِ بين الشعوب. فكان هدفها تعريف المجتمع الألماني بثقافةٍ مغايرةٍ بطريقةٍ تنشرُ إيجابياتِ الثقافةِ العربيةِ عبر ترجمة الأعمال الأدبية العربية. لكن يبدو أنَّ حماسها كان أكبر من قُدُرات الرافعة التي اختارتها لتُقنع القارئَ الغربي بأنَّ هناك أموراً في الثقافةِ العربية أبعد وأجمل من النظرةِ النمطيةِ عن العرب والمسلمين في إطارِ التصوُر السائد عن الإسلام، وانتشار ما يُعرف بالإسلام فوبيا في أوروبا مع تصاعد الحركات الدينية المتشددة.
حب من الزيارة الأولى
منذُ زيارتِها الأولى للمغرب برفقة عائلتها تعلقت باللغةِ العربيةِ بشغفٍ كبير، وبينما احترف أخوها الفن والتمثيل، شقَّت طريقَها كمترجمةٍ تتمتعُ حالياً بمكانةٍ مرموقة في عالمِ الترجمة. وترى أنَّ من حقِ الأدبِ العربي أن يُنشر في أوروبا أسوة بالأدب اللاتيني والإنجليزي. فدرست اللغة العربية لكسرِ الصورةِ النمطيةِ عن العرب في الغرب. لكن المياه الراكدة للأدبِ العربي في ألمانيا لم تتحرك إلا بشكلٍ بسيط عقب حركة اللجوء الأوسع منذ 2015. فكان لترجماتها مساهمات في أن يُصبح لأدب المهجر الجديد مكانته في ألمانيا.
بحكم دورها الرائد كمترجمةٍ ومستشرقةٍ ألمانية، كُرمت لاريسا بندر في أكتوبر عام 2018 بوسامِ الاستحقاقِ الألماني من قِبَل الرئيس الألماني، فقد تَرجمتْ لكوكبةٍ من الكُتَّاب العرب كعبد الرحمن منيف وفاضل العزاوي ويوسف زيدان وجبور الدويهي.
الترجمة بوابة أخرى للاندماج
تسعى الدولةُ الألمانية إلى عمل الكثير من البرامج بهدف الاندماج وتعريف القادمين الجُددْ على ثقافةِ البلد، وخلق فُرَص تطوعية يمكن من خلالِها أن يكتسب القادمون اللغة الألمانية. لكن لاريسا بدرِوها، ترى أنَّ الترجمةَ أيضاً بوابة أخرى للاندماج، تُسهمُ في خلقِ فرص بناء علاقات وتسهيل التسويق لاسم الكاتب وكتابه.
توصَّلت لاريسا إلى نقطةٍ مهمة تحِدُّ من انتشارِ الأدبِ العربي في ألمانيا، وهي أنَّ القارئ الألماني عملي بطبعه، ويُحب الوصول السريع إلى الحدث دون تفاصيل إضافية تقدم شروحات غير لازمة، ولهذا يلجأ إلى الأدب الإنجليزي واللاتيني ولا يُعير الأدب العربي نفس القدر من الاهتمام، والنقطة الأخرى أنَّ جودةَ النَّص أحياناً لا تكون المحركْ الرئيسي للنشر، بقدر ما هي العائدات المتوقعة من المبيعات من قِبَل دور النشر.
وتؤكدُ على ضرورة بناء علاقات متعددة للكاتب ليحصل على فُرص نشر، وهذه سمةٌ غالبةٌ عربياً وغربياً، ومن أُسس بناء هذه العلاقات المعرفة بالقانونِ الألماني وإجادة اللغة الألمانية، والمزيد من المثابرةِ لنشر أدب المهجر والاتصال بالجمهور الغربي.
جيل من الكُتّاب الجدد
تقدم لاريسا هذه الرؤية ليس كمتابع من خارج الدائرة بل من قلب المجال، وبعد رصدٍ ذكي للتحولات التي حدثت في العقدِ الأخير، وظهور جيل من الكُتَّاب الشباب العرب يتنافس بقوة لخلق موطئ قدم في ميدان الثقافة الألماني، الذي بدأ يفتح أشرعتَه للندواتِ العربيةِ والأمسياتِ الشعريةِ بشكلٍ تصاعدي للعديد من الأسماءِ العربية، وبشكلٍ يستحقُ التقدير حسَبَ قولِها. خاصةً وقد ظهرت في السنواتِ الأخيرة صُحُفٌ تُكتَب بالعربية، ومكتباتٌ تضمُ العديد من الكتبِ والروايات والشعر لكُتَّاب عرب، وهذا في السابق كان نادراً جداً.
ترى لاريسا أنَّ تحقيق المزيد من الحضور، يعتمد على “إيمان الكاتب بموهبته وتطوير نفسه بالاطلاع الواسع على الأدبِ الغربي والألماني للدخول إلى مزاج القارئ الألماني”، هذه الوصفةُ الإجرائية الدقيقة لا يُقدِّمُها غير لاريسا كخبيرةٍ بكيفيةِ كسب القارئ الألماني سريع الملل من التفاصيل الوصفية الدقيقة.
“الأدب والكتابة يمكن أن يُشكلا جسراً للتواصلِ وبناء السلام والقبول بالآخر حتى وإن لم يتحقق هذا حاليا”، هكذا ترسُمُ لاريسا الأملَ الدائم كما بدأت به طموحاً شاباً لم يشخ بعد.