على الأبجديات أن تعيد ترتيب الحروف والكلمات لتقوى على اختزال مأساة بهذا الحجم. فالسوريّ الذي خذله العالم وغدر به البحر، ضاقت عليه الأرض وابتلعته الآن. لم نعد نشيّع موتانا فرادى، ومقابرنا الجماعية لا نهاية لها!
وإن كنّا نظنّ أنّنا نجونا حين حملنا ما تيسّر من متاعنا وأحلامنا وغادرنا بلادنا، فنحن مخطئون. لأنّنا نموت رويداً رويداً في كلّ مرّة نتسمّر فيها أمام شاشاتنا. أمّا ركامنا فليس بفعل زلزال ابتلع أحلام من ماتوا فحسب، بل بكل ما نحمله داخلنا من عجز. وأمّا ندمنا فلا نهاية له أيضاً!
ولتكتمل فصول مأساتنا يقف العالم مرّة أخرى عاجزاً متخاذلاً ويترك أهلنا هناك لبرد الشتاء وقهر تتراكم فوقه بقايا منازلهم الهشّة، فها هي سوريا تعود من جديد إلى واجهة المشهد وها هي القنوات والمواقع تتناقل أخبار أبنائها وهم يحفرون الأرض ويرفعون الركام بأيديهم لإنقاذ أحبّائهم.. دون معين!
ما حكّ جلدك مثل ظفرك!
وأمام كلّ هذا السواد الذي يطغى على أيامنا الآن، بدت في بعض المبادرات بارقة أمل. لكن ما أعاد لنا الإيمان هو ذلك الاندفاع الذي شهدناه ونشهده من السوريين أنفسهم. فمن اعتادوا التناحر عادوا إلى فطرتهم الأولى وكأن ذلك الزلزال دمّر جدران الحقد من جملة ما دمّره أيضاً.
وفي الوقت الذي فقدنا فيه الثقة بالعالم كلّه تمتدّ أيادٍ خيّرة وتنتشلنا من جديد، وتثبت للعالم مرّة أخرى أنّها “مسند حملنا” وركيزتنا التي أسّست بالحب.
الدفاع المدني السوري
عيوننا المعلّقة على الشاشات من بعيد كانت تلاحقهم وتبحث عنهم كلّما خبا الأمل في داخلنا. بخوذهم البيضاء وبدلاتهم المغبرّة وعزيمتهم التي لا تلين عشنا معهم فرحاً غامراً في كلّ مرّة نجحوا فيها بإنقاذ أحد الضحايا، وحزناً حين خانهم الموت وسبقهم الزمن، وفخراً وانتماءً لم نشعر به من قبل عندما حاوروا أحد الضحايا برقّة وطيبة أثناء إنقاذه.
ولا أخفيكم سرّاً أنني شعرت بالحرج وأنا أطلب من أحد أعضائهم أن أجري مقابلة معه. فهم في وضع يصعب تخيّله وأمام مهمّة تكاد تكون مستحيلة في ظلّ شحّ الإمكانات. لكن منير المصطفى نائب مدير الدفاع المدني السوري للشؤون الإنسانية أجاب على أسئلتي برحابة صدر.
بين القصف، التهجير، جائحة كورونا … والزلزال؟
تحدّث منير المصطفى عن أن هناك فروقات كبيرة خاصّة وأنهم يعيشون في منطقة تتعرّض لقصف من قبل قوات النظام وروسيا منذ ما يقارب 11 سنة. “كان أخطر ما يمكن أن نتعرّض له هو القصف الذي يعيشه السوريون، وخلال جائحة كورونا كان هناك تهديدات كبيرة على حياة الناس وسكّان المخيّمات. لكننا نفخر أننا استطعنا أن ننجز شيئاً فيما يخص جائحة كورونا، كإنشاء معمل لصناعة كمّامات والألبسة الواقية والأقنعة الواقية والذي استطاع تغطية احتياجات الكوادر الطبيّة وكوادر الدفاع المدني. بالإضافة إلى محرقة للنفايات”. “لكن عندما يتعلق الأمر بالزلزال فالأمر مختلف. نحن في سباق وحرب مع الزمن وآثاره كارثية وطويلة الأمد”.
“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”
وبصوت متهدّج قال المصطفى إنهم في البداية عاشوا صدمة سماع أنين الضحايا والسباق مع الزمن “فكلّ ثانية فيها روح تتنفّس وواجهتنا كثير من الحالات لأطفال وكبار كان فيها الفرق بينهم وبين الحياة هو مجرّد ثوانٍ فقط” تلا الصدمة حالة من الإحباط ففي الأيام الثلاثة الأولى استطاعوا إنقاذ الناس “بعدها لم نعد نجد ناجين تحت الأنقاض فانتقلنا إلى مرحلة البحث عن الجثث وحالياً نحن بآخر مراحل البحث، سننتقل بعدها إلى مرحلة رفع الأنقاض ثمّ مرحلة إعادة التأهيل”
دور المنظّمات الداعمة في الأزمة الراهنة، ما الذي تغيّر؟
أكّد المصطفى أن مؤسسة الدفاع المدني السوري مدعومة من منظمات أوروبية وأمريكية منها الوكالة الأمريكية للتنمية، لكن لديهم إشكالات مالية بسبب التضخّم وانخفاض القدرة الشرائية للعملات “هذا أثر علينا فقد كنا نستخدم لفترة قريبة، حتى بعد الزلزال، احتياطي الوقود الموجود لدينا. فبالنهاية نحن مؤسسة تعتمد على المنح ولسنا مؤسسة تمتلك موارد قابلة للتجدّد. وهذا أكيد سيسبب إشكالاً بالنسبة لعملنا”.
أما عن الدعم أثناء الزلزال فقد أوضح المصطفى أنهم لم يتلقّوا دعماً في الأيام الثلاثة الأولى. لكن هناك وعود بحصص من بريطانيا والدنمارك وألمانيا وكندا ومن أمريكا وقطر أيضاً وبدأت تصلهم معدّات للإنقاذ. “لم يتغيّر شيء فعليا، لكن الظروف التي يمرّ بها العالم أثّرت علينا ومنها الغزو الروسي على أوكرانيا وموضوع كورونا وآثاره على اقتصاديات الدول”
حرب إعلامية واتّهامات بالتقصير في مناطق سيطرة النظام؟
أكّد منير المصطفى أن عمل الدفاع المدني السوري إنساني ولا يقتصر على جهة بعينها وأنهم حاولوا عدّة مرات ولا ننسى محاولتهم للمساعدة في إطفاء الحرائق لكن “هناك شرطان أساسيان للعمل الإنساني: هما تقديم المعونة للناس بغض النظر عن انتمائهم وبنفس الوقت حماية أرواح العاملين معنا. وإن تحقق الشرطان ولم نستجب نكون قد خالفنا مبادئ العمل الإنساني”.
وما ركّز عليه المصطفى أنّ الدفاع المدني السوري أثبت أنه لم يعد منظمة طوارئ إنما هو موجود كحالة سورية موجودة وفاعلة على الأرض. ونموذج أو قدوة استطاعت تجاوز التأطير أو التنميط الذي حاول النظام الروسي الترويج له. “كنا نتمنى أن نصل إلى كل طفل وكل متضرّر في كل سوريا فهو واجب علينا قبل أن يكون حقّ للناس. وحاجة الناس للمساعدة تفرض علينا أن نلبيهم لكن للأسف وجود نظام دكتاتوري قاتل يمنع ذلك”.
“الدفاع المدني فقد أكثر من 300 متطوّع أغلبهم كانوا ضحايا للقصف المزدوج من النظام السوري والروسي. فمراكز الدفاع المدني استهدفت أكثر من مئة مرة. بالإضافة لمحاولات تشويه السمعة والوسم بالإرهاب ومحاولة التنميط والحرب الإعلامية المسنونة ضد الخوذ البيضاء لكن بالتأكيد كل ذلك فشل ويمكن رؤية من انتصر في النهاية على صفحات النظام وكلامهم عن الخوذ البيضاء”.
ما الخطوات التي تلي مرحلة الإنقاذ؟
تحدّث المصطفى عن المراحل التي تلي الزلزال وهي ثلاث مراحل تبدأ بالصدمة والإحساس بالكارثة التي لا تظهر نتائجها بسرعة، تتبعها مرحلة النتائج التي ستوضّح مدى تفاقم المأساة الإنسانية. وتبدو واضحة للعيان من خلال عشرات العائلات المهجّرة. “نحن عندنا تراتبية تبدأ بالبحث والإنقاذ، البحث والانتشال ثم رفع الأنقاض وإعادة تأهيل البنية التحتية. ونحن ننوي الاستمرار حتى أكبر قدر ممكن من العمل لنستطيع مساعدة المدنيين وإعادة الحياة إلى المناطق المنكوبة وهذا واجبنا وما كنّا نقوم به قبل الكارثة”.
الإنسانية…
في نهاية حديثه أكّد المصطفى أن دعم المدنيين ومساعدتهم هو السبب في نجاحهم. “هم مسند حملنا هم السند والظهر، أهلنا في الشمال السوري نوجه لهم الشكر ونكرر اعتذارنا لكل أب وأم وطفل لم نستطع إنقاذ أحبّائهم ونعترف بتقصيرنا لكنّ أدواتنا خذلتنا وحجم الكارثة زاد من ثقل الحمل علينا”.
“أشكر المدنيين الذين كان لهم الدور الكبير في قدرتنا على الاستجابة ساعدونا وأعطونا 200 ألية لنعمل بها. وهناك عائلات أعطتنا وقود التدفئة من بيوتها رغم البرد القارس لنشغّل الآليات الثقيلة التي تستهلك كميات هائلة. هم الأبطال الذين يستحقون الشكر ونحن أبطال الدفاع المدني لأن لدينا مثل هؤلاء الناس الذي يعملون معنا ويسندوننا ويدعموننا”
الصورلـ الدفاع المدني السوري/ syriacivildefence