ديموقراطية الحزب الواحد والديكتاتور الأوحد Photo: Amal,Berlin
15. سبتمبر 2020

ديموقراطية الحزب الواحد والديكتاتور الأوحد

من الشعارات التي كان يسوقّها النظام السوري أنه نظام قائم على الديموقراطية، لكن في الواقع لم يكن كذلك، وبات ذلك جليّاً منذ لحظة تسلّم الأسد الابن مقاليد الحكم بعد موت الديكتاتور الأب حافظ الأسد. فبعد وفاة الديكتاتور الأب في عام 2000 عدّل مجلس الشعب مادة في الدستور، ليتمكن الديكتاتور الشاب من وراثة الحكم، في جلسة مستعجلة لم تتجاوز مدتها ساعات قليلة. ودون الرجوع للشعب، الذي عانى 30 عاماً من حكم الديكتاتور الأب. لم يكن تعديل الدستور الأمر الوحيد الذي يدل على كذب النظام الحاكم فيما يخص الديموقراطية، بل لم يكن يخلو مكان عام، أو ساحة من ساحات سوريا إلا وينتصب فيه تمثال للدكتاتور. ففي الملاعب الرياضية مثلاً كانت تنتصب صوره وتماثيله مع عبارة “الرياضي الأول”، وفي الجامعات كانت تنتشر صوره وتماثيله مع عبارة” الطالب الأول”. وحتى في القضاء كان الدكتاتور يُعتبر “القاضي الأول”!.

وما زلت أذكر ذلك التمثال الكبير الذي تم وضعه في مدخل كلية الطب، والذي يمثل حافظ الأسد وهو يرتدي لباس التخرج، ويحمل في يده كتاب. وكذلك تمثال أطول وأكبر في قلب مدينة السكن الجامعي في حي المزة في دمشق، الذي كان الطلاب يلوذون بظله من حر الصيف الشديد. لم يقتصر الأمر على الأماكن العامة فقط، بل دخلت صورة الدكتاتور إلى منازلنا، فكانت صورته على “الجلاء المدرسي” شهادة نهاية السنة الدراسية، وكذلك على الدفاتر، وفي الفصول المدرسية، فصوره تملأ الجدران.

ديموقراطية الحزب الواحد والديكتاتور الأوحد

فأين الديموقراطية في بلد يسوّق للرئيس على أنه الرجل الوحيد والأوحد القادر على إدارة البلاد.!؟ وأي ديموقراطية تلك التي يتحدث عنها النظام، وتماثيل زعيمه تملأ الساحات العامة، سواء رأسية أو للجسم بأكمله..؟ وأي ديموقراطية والديكتاتور كان يختبئ حتى في دفاترنا المدرسية. وأي ديموقراطية وقد كان يتم إجبارنا على التقدم بطلبات انتساب للحزب الحاكم حزب البعث العربي الاشتراكي ونحن في الصف الثالث الإعدادي، ومن يرفض يعرض نفسه، وأهله لخطر الاعتقال..!؟ وتوضع إلى جانب اسمه نقطة سوداء، ستحرمه مستقبلاً من التدرج الوظيفي فهو ليس “بعثياً”. وأي ديمقراطية ونحن كنا بمجرد دخولنا إلى المدرسة الابتدائية نصبح أعضاء في منظمة “طلائع البعث” وفي الإعدادية ندخل في منظمة “شبيبة الثورة” نستمر فيه حتى المرحلة الجامعية، وفي الجامعة تصبح ودون أن تعلم عضواً في “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” وكلها منظمات تابعة وتسوّق وتروّج للحزب الحاكم وزعيمه الديكتاتور. وهي منظمات لا تختلف عن شبيهاتها التي كانت تنتشر في الاتحاد السوفياتي، وما زالت حتى الآن في معظم الأنظمة الشمولية كالصين وكوريا الشمالية.

ومع بداية ما سمّي “بالربيع العربي” نهاية عام 2010، والذي بدأ في تونس التي بدأت تحبو على طريق الديمقراطية، بعد رحيل النظام السابق متمثلاً بزين العابدين بن علي، ووصل إلى سوريا في آذار 2011، كان للمتظاهرين والمحتجين حديث آخر مع هذه التماثيل والصور. ورأوا فيها خناجر تمزق جسد الشعب، وعائقاً أمامهم في طريقهم تجاه الحرية والديموقراطية والعيش الكريم، التي باتت شعارات معظم الحركات الشعبية في البلاد التي شهدت احتجاجات شعبية على الأنظمة الحاكمة فيها، ووصلت حتى إلى أوربا، والأمريكيتين.!

ديكتاتوريات من بلاستيك

فما زلت أذكر بشكل جيد في اليوم الثاني للاحتجاجات في مدينتي درعا، كانت تنتصب في وسط قريتي صورة لبشار الأسد، لقد قام المحتجون بإحراقها، وتمزيقها. ولم يكن ذلك ذلك تخريباً بحسب ما روّج له الإعلام الرسمي السوري، بل كان رفضاً لكل ما سبق هذا اليوم، وغضب على نظام حوّل البلاد إلى جحيم، وسجن كبير، وللعلم فقط هذه البلاد المدمرة الآن، والتي باتت متقدمة في مؤشرات الفقر، وعدم والأمان، وقمع الحريات ممنوع الدخول إليها وحتى إذا لم تقم بتصريف 100 دولار أمريكي. حتى ولو كنت مواطناً سورياً..!

ولا زلت أذكر جيداً ذلك اليوم الذي كان يصادف يوم الجمعة، حيث تظاهر عشرات الآلاف في الساحات العامة لمدينة درعا، وفي لحظة سجّلتها كاميرات الجوالات البدائية( فالصحافة كانت ممنوعة من تغطية هذه الأحداث) وبثتها لكل القنوات التلفزيونية، أشعل المحتجون بتمثال يجسد الديكتاتور الأب حافظ الأسد، وهو يلوّح بيده، ليوصلوا رسالتهم للعالم أجمع بأن عصر الديكتاتورية انتهى وما هذه النيران التي أشعلت بالصور والتماثيل على امتداد سوريا سوى شموع لتنير درب الحياة الحرة الكريمة القائمة على أسس ديموقراطية. وللمفارقة، وليزداد المشهد وضوحاً جميع الحضور كان يعتقد أن هذا التمثال المنصوب منذ عشرات السنين مصنوع من الجص، أو البرونز، أو حتى الحديد أو النحاس، لتكون المفاجأة أنه مصنوع من البلاستيك المعالج، الذي ما إن وصلته النيران حتى ذاب. وكأنها رسالة أن هذه الديكتاتوريات التي تظن نفسها أنها قائمة على أسس قوية وثابتة ليست سوى مجرد دُمى بلاستيكي. إعادة بناء التماثيل.

منذ عامين بدأت قوات النظام السوري وبمساعدة ميلشيات إيرانية، وحزب الله الذي صنفته ألمانيا هذا العام كحزب إرهابي، وبمساندة من الحليف الأكبر روسيا تفرض سيطرتها على المناطق التي شهدت احتجاجات تحولت بسبب النظام نفسه إلى مواجهات مسلحة. وبعد السيطرة على مباني دمرتها الطائرات السورية والروسية، وتهجر الأهالي أعاد النظام بناء التماثيل ونشر صوره في مداخل الأحياء المدمرة، وفي وسط ساحات المدن التي هجّرها من أهلها. ليقول للجميع “أنا أو الدمار” وهو شعار كان يتركه جنوده على جدران المدن والقرى “الأسد أو نحرق البلد” والذي طبّقه بكل حذافيره، فلقد بقي الأسد واحترق البلد. ويا ليته نفذ شعار الديموقراطية الذي يتفاخر به كذباً، كما طبق جنوده شعارهم المحبب” الأسد أو نحرق البلد”.