دائماً ما تعود بي الذاكرة القهريّة إلى أيام المدرسة الابتدائية حيث كنا صغاراً وحيث كان الانتماء الوطني محكوماً بالإكراه. نقف بأطراف متجمّدة لا تقوى على أداء المهام المطلوبة. “استعدّ، استرح، رتلاً ثنائياً رتلاً ترادف”! هذه المنظومة التي يطلب منا أن نعيدها عدّة مرات فقط لأن بعضاً منا لم ينتظم في الصفّ بعد. تليها بعض الشعارات الرنّانة التي يجب أن نردّدها بكل فخر، والتي غالباً ما كنّا نعيدها أيضاً لتنال رضا أوصياء العروبة والوطن. وندخل بعدها إلى صفوفنا الباردة مفعمين بالفخر. فنحن أبناء أمّة أبت أن تذلّ.
النشيد الوطني
الآن ومع قرب انتهاء بطولة أوروبا وبطولة أمريكا لكرة القدم عليّ أن أعترف بأنه يكفي أن أرى فريقاً رياضياً كاملاً يضع يده على صدره أثناء ترديد النشيد الوطني لأشعر بالحسد! نعم إنه الحسد لا الغبطة! وأسأل نفسي: ما الذي يجعلني أشعر بالانتماء؟ فأنا، ولست وحدي من يشعر بذلك، لم أردّد نشيدنا الوطني يوماّ وفي قلبي شيء من الاعتزاز ولا حتى الفرح.
فالنشيد الذي أجبرنا على ترديده مرتين في الأسبوع كان عبئاً ثقيلاً. ولطالما ضحكت من الأخطاء التي يرتكبها رفاقي أثناء ترديده. والأخطاء لا تقتصر على تبديل بعض الكلمات فحسب، بل تتعدّاها إلى أخطاء نحوية قاتلة. ربّما لأننا حفظناه عن ظهر غيب دون أن نشعر بأن كلماته تمسّنا أو تعني لنا شيئاً. وربّما لأن الشتائم كانت تلاحقنا كلّما ردّدناه بشكل آليّ. كأن يصرخ مدرّب مادة التربية العسكرية: “اعتزّ بنفسك ولاك حيوان”، “ارفع صوتك يا بجم”! أو لأن حفلة زحف جماعية تطالنا جميعاً كعقوبة، فتمزّق سراويلنا عند الركب. وتترك فيها ندبةً ترافق أكثرنا طوال العام. لأنه لا قدرة لنا على شراء بدلة عسكرية أخرى. هذه الندبة ترافقها ندبة أخرى لكنّها في كرامتنا هذه المرة.
بين أغاني القائد الخالد وأغاني المناسبات الوطنية!
ولا يتوقف الأمر عند النشيد الوطني فحسب، بل يتعدّاه إلى كل مناسبة وطنية عشنا الانتماء قسراً من أجلها. وعليكم أن تختاروا المناسَبة لأذكر لكم أغنيتها المناسِبة. فلدينا نشيد لحزب البعث ونشيد للطلائع والشبيبة والطلبة، للفلاح والعامل. وللجندي الشجاع على وجه الخصوص فنشيدنا الوطني نفسه يمجّده من بدايته إلى النهاية. وفي كل مناسبة سخّرت أقلام الشعراء والآلات الموسيقية لتأليف أغانٍ تمجّد القائد الخالد. وإن عجزوا فأغاني الرحابنة وصباح ووديع الصافي موجودة وتؤدّي الغرض.
الثورة.. والانتماء!
كثيرون كتبوا عن حالة العجز والفراغ الذي كنا نعيشه في ظلّ نظام قائم على الفساد بمختلف أنواعه. وكم أن ثورات الربيع العربي في بداياتها أعادت لنا شعوراً لا يمكن وصفه بالكلمات. أذكر أن أخي اتصل بي حين كنا في دمشق وأخبرني وصوته يوحي بأنه يرقص فرحاً: “طلعت، طلعنا وهتفنا، كنا مجموعة صغيرة لكننا هتفنا حتى بحّت أصواتنا”. رقصنا معه أيضاً وشعرت أن قلبي يكاد يقفز أمامي متدحرجاً فصدري قد ضاق به. هل يسمّى ذلك انتماءً؟
نشيدنا الوطني
في بداية الأمر كنت خائفة من أننا لم نكن شعباً مهيّأً لعيش حلم الثورة التي كانت تشتعل من حولنا. فنحن شعب درس تاريخاً مشوّهاً من الأمجاد. واستعار الوطنية من أغانٍ لسيّد درويش والشيخ إمام وقصائد لمظفّر النواب ومحمود درويش. حتى أننا حفظنا أشعار لوركا عن حرية لم نعشها لعقود. كلّ ذلك تبدّد مع أولى صيحات الحرية! وصار لنا وطن نغنّي أغنياته التي خرجت من حناجر متظاهرين منهم من قتل ومنهم من غيّبه المعتقل.
صار للكلمات معنىً يطرق القلوب، فالوطن لم يعد مستعاراً من أغنيات فيروز أو غيرها فهو ملكٌ لنا. بكينا ونحن نردّد هتافات الثورة وأغانيها! ربّما كانت إحداها نشيدنا الوطني. وربّما سيبتسم لنا الزمن يوماً! وسنقف واضعين أيدينا على صدورنا لنغنّي نشيداً لا يمجّد سوى الإنسانية والحرية الحقيقية.