يرتبط البكاء بالضعف لدى ثقافات عدة، وهو ارتباط فيه من الغرابة الكثير، لكن الأغرب من ذلك أن ثقافتنا العربية تربط الضعف والبكاء بالمرأة، ومع أنها صفات إنسانية مشتركة عند جميع البشر إلا أن الصورة النمطية التي تكونت منذ القدم أعطت للرجل صفات القوة والشجاعة والقيادة، وتركت للمرأة الضعف والخوف والاستغلال والتبعية وذرف الدموع!
البكاء أمر فطري وفيزيولوجي في الإنسان، وفعل يحرر مشاعرنا من الكبت الذي نتعرض له، وفيه راحة للنفس والروح والجسد، كما يؤكد العلم، إلا أن الرجل في ثقافتنا لا يفترض به أن يبكي، وإذا حدث وفعل أحدهم ذلك فإنه يكون قد وضع هيبته على المحك، حتى أنه قد يتحول لشخص ضعيف وفاقد للرجولة في نظر الأغلبية، ذلك أن تاريخاً طويلاً من التمييز في مجتمع ذكوري بحت جعل من البكاء أمراً غير محبذ إلا إذا صدر من امرأة أو طفل، فالبكاء فيه تعبيراً عن الضعف، كما يعتقدون.
كان أبي (رحمه الله) مختلفاً، وشخصياً، كان هو أول رجل رأيته يبكي، حدث ذلك عندما كنت ما أزال طفلة، ولاحقا لم يكن من النادر أن اشاهده يبكي، كان رجلاً لا يجد حرجاً في إظهار دموعه. سنجده يبكي حين يرى طفلاً صغيراً مريضاً، أو حين يتذكر والده، أو عندما يموت أحد أصدقائه المقربين. واحدة من تلك المرات التي رأيت فيها أبي يبكي بصوت عالٍ كانت في بغداد التي قصدناها من أجل إجراء عملية لساقي، كنت في الحادية عشرة حينها، وقبل دخولي غرفة العمليات طلب مني طبيب العظام وكان يدعى “مظفر حبوش” أن أرفع رجلي، لكني لم أتمكن لأن لدي ضموراً في عصب الرجل اليسرى منذ كان عمري ثلاثة أشهر، عاد الطبيب وطلب مني أن أحرك أصابع قدمي، وبينما كنت أحاول بجهد واضح وفشلت، سمعت صوتاً يجهش فجأة بالبكاء، التفت إلى الخلف ورأيت أبي واقفا بشموخه المعتاد، وبعاطفته المعتادة أيضا، كان يبكي بصوت عالٍ لدرجة جعلت الطبيب يطلب منه أن يغادر المستشفى وألا يعود إلا في اليوم التالي.
آخر مرة بكى فيها أبي، وهو على فراش الموت في المستشفى، وحتى الآن بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على ذلك اليوم ما زلت أتذكره كلما وجدت نفسي أبكي وآنا مستلقية على ظهري، ومع كل دمعة أذرفها لأي سبب أتذكر إنسانية أبي التي لم أشاهدها في أحد غيره. لم يكن غريبا عليه أن يعبر عن مشاعره بالدموع، لكنه عندما كان يبكي لأي سبب، كان يفعل ذلك بطريقته الخاصة، يهز رأسه المرفوعة بأسف وحزن وشموخ، ثم يسحب طرف “غترته” التي يطويها فوق رأسه ويمسح دموعه، قبل أن يعيد لفها على رأسه بينما يقف واضعا يديه على رأس “جمبيته”، وبعد تأمل بسيط يخرج منديل نظارته الشمسية ويمسح زجاجها، وكأنه يستعد لرؤية العالم كله من جديد بعيون نظيفة وبقلب طفل كبير.
علمني أبي الشجاعة، فعندما كنت طفلة كنت شقية جدا، وعلى الرغم من أني كنت ألبس جهازا داعما لرجلي يساعدني على المشي، إلا أني لم أكن أشعر أبدا بأني معاقة لأن أسرتي ربتني على القوة لا على الشفقة أو استدرار عطف الآخرين، كنت ألعب في الحي مع الإناث والذكور وأتشاجر مع الجميع ولم أكن لأشتكي لوالدتي أو لوالدي في حال تعرضت لمضايقة بسيطة. لم يرد أبي أن أشعر بالخوف لأني ضعيفة، كان يريدني دوما قوية، كان هناك ندية واضحة بيني وبين أخي وليد، فالندية هي المبدأ الذي كان أبي يؤمن بأنه سيجعلني أقوى.
كما علمتني دموعه الإنسانية، والعفو عند المقدرة.. فذات مرة كنت ألعب مع أطفال حينا وتشاجرت مع أحدهم، لم تكن هذه المرة الأولى التي نتشاجر فيها لكنها كانت المرة الأولى التي قام فيها ابن جارنا بدفعي للأرض بقوة، تألمت وشعرت بالقهر الشديد، وعلى الفور ذهبت إلى أبي الذي كان في أحد مجالس المقيل الكبيرة في الحي مع وجهاء المنطقة، دخلت المجلس الكبير وكان أبي جالساً في رأس المكان، مررت من جانب كل تلك الوجوه والأعين فاعتقد أبي بأني أريد بعض النقود لشراء الحلوى والعصائر لكني وقفت أمامه ساكته، سألني بصوته الحنون (ايش في؟) لكني بقيت واقفه والدموع على خدي مختلطة بالتراب فنظر إلى فستاني ورأى التراب خلفه وأسفله، سألني عما جرى لي؟ لكني بالكاد استطعت نطق اسم الفتى الذي كان والده حاضرا في المجلس، خيم الصمت على الحاضرين للحظة قبل أن ينهض العم محمد بعدما سمع اسم ابنه واتجه خارجا..
قام أبي بدوره وحملني على كتفيه وتبعه نحو الخارج، وبمجرد خروجنا تبعنا حشد من مرتادي المجلس، كان موكبا مهيبا لن أنساه أبدا، طلب العم محمد من أطفال الحي أن يحضروا ولده الذي حاول الفرار، جلب الأطفال الصبي، وعندما وصل طلب مني والده أن أضربه، كان الجميع صامتاً، نظر إلي أبي وقالت لي عيونه كلاماً استطعت أن ألتقطه وأفهمه رغم صغر سني، أنزلني من حضنه فاتجهت نحو الصبي وقلت له: لقد سامحتك. نظرت لأبي مرة أخرى ولن أنسى الابتسامة الكبيرة التي ملأت وجهه، والدموع التي حبسها بصعوبة، كما لن أنسى مدح الرجال الآخرين لموقفي. حتى الآن كلما تذكرت ذلك الموقف أشعر بالسعادة وبالفخر لأني فهمت ما تريدني دموع أبي ان أفعله.
عزيزي الرجل عليك أن تتخلص من الإرث الاجتماعي والثقافي الذي يحولك إلى صخرة، أظهر إنسانيتك كلما شعرت أن الموقف يستحق، ابك فالبكاء ليس ضعفا بل قوة، والدموع التي تحبسها فيها ذاتك، فإن سمحت لها بالخروج، فأنت بذلك تحث من حولك لأن يصبح إنسانا وأن يتعلم القيم الإنسانية.
لا تصدقوا أن الضعف صفة لصيقة بالنساء، كلنا ضعفاء بشكل أو بآخر وكلنا أقوياء بشكل أو بآخر، ما يحصل أنه حين يبكي الرجل فإنه يفعل ذلك وحده، بينما عندما تبكي المرأة يبكي معها عشرات الرجل المحترمين!
- سماح الشغدري
شاعرة وكاتبة واعلامية من اليمن - لوحة الغلاف للفنان نوح إبراهيم