هــويّات أرتديها! Photo: pixabay.com
11. يوليو 2019

هــويّات أرتديها!

حين وصلت إلى ألمانيا أواخر العام 2016، مررت خلال فترة إقامتي فيها بظروف جعلتني أتغير كثيرا، إذ أصبحتُ أكثر قدرة على استيعاب قضايا جديدة لم تطرأ إلى ذهني، وتغيرت كثير من قناعاتي القديمة، وتحركت ثوابت لم أكن أتوقع أن ثباتها قابل للنقاش أو متاح لأي احتمالات، ولم أجرؤ على نقاشها حتى في حديث مع النفس.

سأتحدث في هذه الزاوية عن بعض القضايا التي تغير فهمي لها أو نظرتي  إليها، أو أعدت التفكير فيها بشكل مختلف بعد دخولي إلى مجتمع جديد. والموضوع بالتأكيد لا علاقة له بهوية دينية أو قومية، ما أتحدث عنه هنا هو صراع هويّات عامة مع هويّات عامة أخرى مقابلة لها.. هو حالة حساسية تشعر بها وأنت تنتقل إلى مجتمع جديد وتحاول تقييمه وفهمه بالتزامن مع إعادة تقييم ذاتك وفهمها، أنا أكتب عن صورة أخرى للصراع بين الخير والشر وعن تجربتي في استيعابها والتعاطي الإيجابي معها  خوفاً من أن تتشوه نفسيتي.. أن أتحول إلى شخصية مريضة لا أعرفها نتيجة ما واجهته هنا في البلد الجديد، بفعل الوضع الإجباري الذي وجدتني فجأة وبدون ترتيبات مسبقة أغرق في تفاصيله التي حولتني لطفلة تلاحظ أصغر الأمور وتندهش بها؛ هنا لا أقصد المجتمع الألماني تحديداً.. فأنا في بلد تعيش فيه أكثر من 80 جنسية، أي أن مجتمعه يحتوي الكثير من المجتمعات بداخله بالإضافة إلى أن هذه القضايا يمكن أن تحدث في أماكن كثيرة.. أرقني موضوع (الهوية الإنسانية) لكن المسألة حسمت ومن حسمها هو الشارع الألماني!

قد يكون غريباً أن يتم تقييم قضية هامة من خلال الشارع، لكن بالنسبة لي ومنذ أحداث الربيع العربي 2011، أصبحت مقتنعة بأن الشارع هو المتاح الأقرب الذي يمكن أن تستقرئ من خلاله ثقافة وأخلاق شعب بأكمله .الناس وتصرفاتهم التلقائية مع أي غريب هي من تقيم مدى تقبل البلد أو رفضها لك. مدى إمكانية البقاء فيها والكفاح من أجل تحقيق الذات كما كنت في بلدك الأم! وخصوصاً حين تكون في مجتمعك الجديد غريباً بكل المقاييس ومختلفا عن سكان البلد الأصليين في اللون واللغة والثقافة. وهنا لابد أن اسرد بعض ما صادفني وترك في وعيي نقاط ضوء اتكأت عليها وأنا أتنقل بين هويات كنت ملزمة أن ارتدي معاطفها الثقيلة حينا.. والدافئة أحيان آخر ..

تلك المرأة السبعينية التي صرخت وأنا أحاول أن أعبر الشارع العام: خطير.. اذهبي الى الإشارة واقطعي الشارع؛ وتسرع نحوي وتتحدث إلي كأم تلاطف طفلها وتربت على كتفه.. وتلك الفتاة العشرينية الأنيقة التي اندهشت متسائلة: منذ متى استيقظت، لتخرج مبكرة بهذه الهيئة وقد اعتنت بأظافرها، واختارت لون طلائها وشكل تنورتها وبلوزتها وترتيب شعرها، ثم تأتي دون اعتبار لكل هذا لكي تساعدني في ركوب الباص !وذلك الشاب الثلاثيني الذي كان مع حبيبته ذات شتاء في وضع رومانسي، يقطع قبلته حين يلاحظ أني شاردة، وأن الباص الذي أستقله يوميا قد وصل ولم انتبه له.. يقطع لحظاته الحميمية ويأتي إلي مسرعا: سيدتي باصك سيغادر الآن! أسرعي! ويساعدني في إيقافه.. وأصل بفضله لموعدي دون تأخير

علّي هنا أن أعترف أن هذه المواقف ورغم بساطتها أعادت لي الأمان وجعلتني أتوازن في إطلاق أحكامي.. وتتعزز قناعتي الدائمة بأن الخير والشر قضايا نسبية، أن الأحكام العامة على الشعوب نتيجة تصرفات فردية تصرف غير عادل.

انتصر الخير وأعادني الشارع الألماني إلى ذاتي.. وأغلقت الصفحة فيما يتعلق بمسألة الصراع الإنساني الذي أرقني كثيراً. لكن فيما يبدو أن معركة الهويات لن تنتهي في هذا البلد.. المفاجأة أني فور خروجي من صراع الهوية الإنسانية؛ اصطدمت بهوية الجسد! التابو!.. هذا التابو المغلق، ما يمتلكه الجميع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا “أنا”.

مقال لـ سماح الشغدري (شاعرة وكاتبة وإعلامية يمنية)

Photo: pixabay.com