يشهد العالم تحولاً سريعاً في مجال الذكاء الاصطناعي، والصوت لم يعد بمنأى عن هذا التطور. فما كان يوماً يحتاج إلى استوديو ومعدات وخبرة بات ممكناً اليوم بنقرات قليلة على الحاسوب. يمكن توليد أصوات بشرية واقعية إلى حد الإقناع، تستطيع تقليد النبرات والمشاعر وحتى الترددات الدقيقة في الكلام. هذه القفزة التقنية تفتح الباب أمام إمكانات واسعة، لكنها في الوقت ذاته تثير أسئلة مقلقة حول الموثوقية والخداع.
أصوات اصطناعية واقعية في ثوانٍ
بحسب موقع NDR تتيح منصات مثل ElevenLabs وأدوات أخرى للمستخدمين إنشاء صوت بشري بمجرد إدخال نص مكتوب. يستطيع النظام تحليل نبرات الصوت البشري وتوليد نسخة مطابقة له، سواء كان ذكراً أو أنثى، شاباً أو مسناً، وبمختلف اللغات. تستخدم هذه التقنية اليوم في خدمات العملاء، والإعلانات، والكتب الصوتية، والبودكاست، ما يجعلها جزءاً متنامياً من الصناعات الإبداعية.
لكن الخطورة تكمن في مدى سهولة استخدامها. فبضع ثوانٍ فقط من تسجيل صوت شخص كافية لاستنساخ صوته رقمياً. بعد ذلك يمكن جعل هذا الصوت “يتحدث” بما لم يقله قط. وهنا يتحول الابتكار إلى سلاح تضليل يمكن لأي شخص استخدامه دون الكشف عن هويته.
حين يصبح صوت المشاهير أداةً للتزييف
المشاهير في مقدمة من يتعرضون لهذا النوع من الانتحال. تتوافر أصواتهم في العلن عبر المقابلات ومقاطع الفيديو، مما يجعلها مادة جاهزة للنمذجة الصوتية. تنتشر عبر الإنترنت مقاطع تُظهر سياسيين أو فنانين “يتحدثون” برسائل مزيفة، بعضها يروّج لمنتجات مشبوهة أو تصريحات ملفقة. وغالباً ما يصعب على المستمع العادي التمييز بين الصوت الحقيقي والمزيف، خصوصاً عندما يرفق المقطع بفيديو متقن الصنع. ولا يقتصر الاستهداف على الشخصيات العامة فقط، بل يشمل أيضاً مؤثرين وأشخاصاً عاديين قد تستخدم أصواتهم دون إذن في محتوى خادع أو إعلانات غير مشروعة.
القانون بين حماية الصوت وملاحقة التزييف
تعتبر الأصوات الرقمية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي محمية قانونياً شأنها شأن الأصوات الحقيقية. فاستنساخ صوت شخص دون موافقته يُعد انتهاكاً لحق الخصوصية. وقد أكدت المحاكم الأوروبية هذا المبدأ، كما حدث في قضية الممثل الصوتي الألماني مانفريد ليمان الذي كسب دعوى ضد شركة استخدمت صوته دون ترخيص.
مع ذلك، تبقى الممارسات غير القانونية منتشرة، سواء بسبب ضعف الوعي القانوني أو سهولة الحصول على هذه الأدوات. وتواجه المؤسسات الإعلامية تحدياً متزايداً في كشف التزييف الصوتي وحماية ثقة الجمهور.
الإعلام في مواجهة الأصوات المضللة
تعرضت بعض المؤسسات الإعلامية، مثل هيئة الإذاعة الألمانية ARD، لحوادث تضليل تضمنت أصواتاً مقلدة لمذيعين حقيقيين. وقد سارعت فرق التحقق إلى إصدار بيانات وتصحيحات لكشف التزييف. هذه الوقائع تبرز أهمية دور الصحافة في التحقق السريع من المحتوى ومكافحة الأخبار الكاذبة.
أزمة الثقة في زمن الصوت الصناعي
لم يعد الصوت البشري دليلاً كافياً على الحقيقة. فبفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن لأي جهة أن تنتج تسجيلاً يبدو موثوقاً ومقنعاً في دقائق معدودة. ومع تطور الجودة التقنية وانخفاض التكلفة، يزداد خطر انتشار المعلومات المضللة، ما يهدد الحوار العام والديمقراطية القائمة على الثقة والمساءلة.
نحو وعيٍ رقمي ومسؤولية جماعية
مواجهة هذه الظاهرة لا تتطلب حلولاً تقنية فقط، بل أيضاً وعياً اجتماعياً وتشريعات صارمة تحمي هوية الأفراد وصوتهم. فالمجتمع مطالب اليوم بالتعامل مع الصوت كوثيقة رقمية قابلة للتلاعب، لا كدليلٍ لا يمكن دحضه.
