عشرة أعوام في بلاد الديوتشلاند! Image by Manfred Richter from Pixabay
21. أكتوبر 2025

عشرة أعوام في بلاد الديوتشلاند!

في نهاية اكتوبر ٢٠٢٥ يكون قد قضيت في بون عشرة أعوام بالتمام والكمال، لا أدري كيف ركض الزمن بهذه السرعة، لم انتبه لأي يوم يمر، الحياة هنا رتمها سريع، تستيقظ على الورق وتنام على الورق، يوميا تأتي رسائل  إلى صندوق البريد، وعليك أن تتعامل معها بالطريقة الصحيحة التي لا تمتلكها أصلا لعدم اجادتك للغة الألمانية، التعليم فقط على مربع بطريقة خاطئة يكلفك ثمنا باهظا، والاعتماد على الترجمة الإليكترونية وحدها غير كاف، فهي غير دقيقة بالمرة، لا أدري ماذا فعلت في هذه العشرية الصفراء نسبة للقبي، لم أتعلم اللغة، كل كورس أدخله يتم إخراجي منه لضعف سمعي الشديد، أعرف الكلمات ومعانيها تقريبا بواسطة النظر، أعرف أن هذه الكلمة بها فائدة لي، وتلك الكلمة ستجلب لي مصيبة، كل صباح عند العاشرة  بالضبط تأتي دراجة البريد الصفراء، يضع البوستجي أو البوستجية الرسائل في صناديق البريد، أترك الدراجة تبتعد أمتارا وأنزل سريعا بمفتاحي الصغير، قبل أن أفتح الصندوق أقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن شاء الله يكون الصندوق فارغا ياربي، لا أريد أي رسائل تأتي سواء معي أو ضدي، زمان عندما كنت شابا أحب صندوق البريد في بنغازي، لا يجلب لي سوى رسائل الصداقة والغرام، لقد كنت من هواة المراسلة، أراسل دول المغرب العربي الكبير أتبادل معهم الأراء والكلمات الحلوة، لكن صندوق البريد الألماني لا أشعر بالسعادة معه إلا عندما يكون فارغا، صندوق بريد المنفى يوتر أعصابي وصندوق بريد الوطن يريحها جدا، لا أريد كلمة Herr الأصفر أريد كلمة حبيبي الأصفر اللي مافيش منه.

خلال عشر سنوات نشرت حوالي عشر كتب، أفادتني معنويا لأنها خرجت من قلبي، أمّا ماديا فلا، بإستثناء بعض الدعم من أصدقاء قليلين يقدرون كتاباتي بشكل شخصي، حاولت أن أستفيد من ريعها من خلال الترجمة إلى لغة مقروءة، فحاولت الاتصال بمترجمين لغتهم الأم الألمانية،  لكنهم جميعا مرتبطون بمؤسسات تدفع لهم اتعابا لا قبل لي بها، وحتى وإن لدي المال فلابد في الأساس أن يعجب المترجم بالنص ويحب أن يترجمه، غير ذلك سيترجمه كعمل إداري ليس بلا روح، راسلت عدة دور نشر ألمانية دون نتيجة، بل في ردهم بعض الوقاحة مثل عبارة نأمل أن لا ترد على رسالتنا، وبالطبع لا أرد عليهم وأحذف بريدهم الإلكتروني من الذاكرة أيضا، مع كلمة عليكم اللعنة بلغة الشارع.

من أجل الحصول على مترجم حرصت على  زيارة معرض فرانكفورت كصحفي كل عام، لكن من النادر أن أكتب أي شيء عن المعرض، أعمل كرت الصحفي من أجل الدخول مجانا ومتابعة بعض الندوات التي لا يدخلها إلا الصحفيين وأيضا كي التقط به صورا وهو مربوط في رقبتي ليراها الأصدقاء في الفيس بوك ويتمنون لي الخير، لأنني أحب كل الأصدقاء بعض النظر عن اختلافي معهم في بعض المسائل، أضحي بأي مسألة لكن لا أضحي بأي صديق، منذ أن وصلت إلى ألمانيا توقفت عن الكتابة للصحافة، كنت أكتب لعدة جرائد ومجلات يريدون موادا عن ليبيا ومشهدها الثقافي، في البداية حاولت أن أكتب من خلال الحصول على معلومات وصور عن النشاط الثقافي في ليبيا من الأصدقاء، حدث ذلك مرتين فقط، بعدها توقفت، لا يمكنني الكتابة عن نشاط عن بعد، لابد أن أكون حاضرا جسديا وروحيا فيه حتى تكون كتابتي مقنعة، أيضا بعد قدومي إلى إلمانيا لم أعد أحتاج لمكافآت المجلات والجرائد، هنا يوجد تسهيلات تمكنك من العيش بشكل معقول، وقضاء الوقت في الكتابة إن لم يكن لديك شغل قانوني، بالطبع لم أعمل في أي عمل بالأسود، أنا كاتب يجب أنْ أكون قدوة ولا أقع في مخالفة تلوث ملفي مثل هذه.

لا شيء أعمله هنا سوى القراءة و الكتابة والتسكع، أخرج يوميا لأكتب في المقهى، أجلس إلى طاولة لا تتغير، عشت السنين العشرة منعزلا في حالي، كل ليبي أو عربي أو كردي يقترب مني أظهر له سماعة الأذن كي يبتعد عني، حتى الجيران في العمارة علاقتي بهم السلام عليكم مرحبا أهلا فقط، أحكي معهم بالعربية فقط، السلام عليكم أهلا كيف حالك اليوم عمت مساءا هذه هي كلماتي المتداولة يوميا، لم استعمل اللغة الألمانية في الحياة اليومية إطلاقا، أحب الاندماج بطريقتي، أتكلم مع الألماني بالعربية ومع حركة يدي ومع الإشارة يفهم مني المطلوب بالضبط، وبعد أن يفهم أقول له الكلمة الألمانية، فلا يعرف يضحك أم يبتسم لكن يهز رأسه الضخم دهشة.

عشر سنوات لا أدري هل هي ممتعة أم مملة، لقد عشتها بدون أقارب أو مناسبات اجتماعية أو أصدقاء مقربين مني أشاركهم أفراحهم وأحزانهم وأشرب القهوة معهم، معظمهم غادروا في الحرب وفي السجون وفي الفيضان ونتيجة المرض أو الحوادث أو الوصول إلى محطة النهاية لتقدمهم في العمر، لم يبق لي شيء منهم سوى بعض الذكريات، لا أذكر أخر مرّة التقيت فيها بصديق غادر عالمنا، نحن نفترق دائما بعد كل جلسة دون وداع، لا نريد لذاكرتنا أن تسجل تلك اللحظة، نفترق لكننا باقون معا دائما، التواصل عبر العالم الافتراضي صوتا وصورة أو كتابة لا تكفي، تواصل مزيف بليد باهت خال من الرائحة ولمعة العين ودقة القلب، خال من الملمس الدافئ وتربيتة المواساة على الكتف والعناق المصحوب أحيانا بالدموع، كلما يغادر صديق إلى العالم الآخر أشعر أن دوري قادم، لا أحزن ولا أفرح، أفتح النافذة حتى وإن كان الطقس باردا وابتسم للسماء وأقول لها لا فرق بين عالمك وعالمنا، لا فرق بين أن أكون هنا أو هناك، في الحالتين أنا هو أنا.

بين حين وآخر أسافر إلى تونس أو مصر لتوقيع كتاب صدر لي، أعيش أياما سعيدة في معرض القاهرة أو معرض تونس، أرى أصدقاء وصديقات من الدولتين، وأرى أصدقاء ليبيين، أعيش معهم لحظات جيدة داخل المعرض، بعدها أذهب إلى فندقي وهم إلى فنادقهم، وآنذاك لا أشعر أنهم أصدقاء، لأننا جميعا خارج الوطن، في الوطن عندما نلتقي لا نعود كل منا إلى بيته، ممكن جدا أن أنام في بيت صديق، أو أصدقاء ينامون في بيتي، هناك غرفة اسمها مربوعة هي مفتوحة دائما للضيوف، أصدقاء خارج الوطن لا يروق لي ذلك، أشعر بالصداقة داخل الوطن فقط، وسرعان ما ينتهي المعرض لأذهب إلى المطار، وفي المطار أعيش ألما فظيعا عندما أرى لوحة رحلات الطيران والطائرات المغادرة الى بنغازي وطرابلس ومصراتة، ويزداد ألمي كثيرا عندما أرى زحمة الليبيين وطوابيرهم أمام موظفات الحجز للحصول على كرت الصعود ولا أحتمل المشهد فأنزوي بعيدا، شيء مؤلم جدا أن يأتي الإنسان من خارج وطنه ويعود من جديد إلى خارج وطنه، أعطي جواز سفري وبطاقة اقامتي وتذكرتي لموظفة الخطوط الألمانية لتعطيني كرت صعود إلى مطار كولون بون أو دوسلدورف أو فرانكفورت فأخذه وعيني بها دموع.

أعيش عشر سنوات هنا في بون، وحسب القوانين الجديدة فمن حقي الحصول على الجنسية الألمانية لو تقدمت لها، لكن دائما أسأل نفسي ما الذي سيستفيده إنسان في مثل عمري بجنسية دولة أجنبية، هل الحصول على جواز سفر ألماني سيحل لي كل مشاكلي، أعرف جيدا أنني لن ألاقي الاحترام في المطارات رغم أنني أحمل جواز السفر الألماني، سيقول لي الضابط ورقك ألماني لكن جيناتك ولحمك وشحمك عربي، لن أمر من البوابة سريعا، سيتحقق أن جواز السفر سليم، سيجعلني أنتظر بينما الأجانب البيض والشقر والحمر يمرون من أمامه في لمح البصر ومع ابتسامة امتنان وتملق لهم، ومن هنا أفضل أن أسافر بجواز سفري الليبي الذي أحبه رغم ما يلاقيه من مصاعب، لأقفل فم ذلك الضابط اللعين وغيره، يمكنني أن أنتظر لكن لا يمكنك أن تهينني، أتيت إلى بلادك كليبي وليس كمجنس لفائدة ما، وآنذاك لن يتمادى الضابط وسيعمل الإجراء حسب القانون.

عشر سنوات في بون لم أشارك في أي فعاليات سياسية، فقط التصويت في الانتخابات البلدية، أذهب إلى المدرسة القريبة مكان التصويت، وأعلّم على أي اسم، أقرأ الأسماء واختر اي اسم به رنّة موسيقية أو صورة الشخص مريحة لعيني تبدو عليها امارات الطيبة، ثم أخرج ولا أتابع النتائج، لم أتعرض لأي معاملة عنصرية في الشارع أو الحافلة أو القطار، ولكن تبقى حرية التعبير هي معضلتي، فهناك حدود لا يمكنك تجاوزها وهناك خط أحمر يتعلق بموّال السامية حذاري أن تقترب منه، السامية تركب فوقك تقتلك تغتصبك تسرقك تعذبك، قل لها شكرا ولا تعاتبها أو تقاومها أو تغضب منها أو تلعنها، عليك فقط أن تتعامل معها وفق قول المسيح من صفعك على خدك الأيمن مدّ له الأيسر. وككاتب في مجال الإبداع القصصي والروائي فضلت أنْ أترك أمور السياسة، وهدفي أن أترجم بعض كتبي ليقرأها جمهور جديد، السياسي هدفه السلطة ليغير حياته قبل شعبه إلى الأفضل، طريقي هو الحبر وطريق السياسي الدم، إذن لا لقاء.

والآن ماذا أفعل لم أنجح في تحقيق أهدافي، لم أصل لأي اتفاق لم أحقق نتيجة بخصوص الترجمة في معرض فرانكفورت هذا العام، أرغب أن يتم الأمر بشكل محترم، لا أريد أن أتسول ترجمة من أي كان، حتى وإن لم أترجم أي كتاب فلن أعاتب نفسي، أفعل ذلك حتى لا تزعل كتبي، أريد أن أقوم بواجبي نحوها وكأنها أبناء بيولوجيين لي، لماذا تظل كتبي في سجن العربية إلى يوم الممات، سأخسر المال وحتى أتسوله من أجلها لا مشكلة لدي، ولكن ولنفرض أنني ترجمت كتابا الى اللغة الالمانية، هل سينجح الكتاب هل سيتحول الى فيلم سينمائي هل سيحقق مبيعات؟ بالطبع لا أدري يعتمد كل ذلك يعتمد على الحظ، فيا أيها الحظ اللعين ابتسم لي أرجوك.

وفعلا ابتسم قليلا فذات يوم اتصل بي قارئ، قال لي بينما كنت في تونس قرأت رواية لك تتحدث عن الموسيقى وبتهوفن والحرب وآلة الناي وأعجبتني واشتريت منها نسختين ولدي علاقة بمؤسسة ألمانية تهتم بضحايا الحروب ومقابرهم سوف أعرضها عليهم وسيتحمسون لترجمتها، ومشت الأمور تمام ووصلني رد إيجابي من المؤسسة بخصوص ترجمتها، وعندما يتم ترجمة الرواية وتنجح ستلتفت دور النشر لبقية أعمالي من قصص وروايات وسترضى علي كل كتبي وتشكرني وأن يشكرك كتاب أنت من أبدعته أفضل من أن يشكرك إنسان من إبداع الغير وسأكون غنيا بعدها بفضل الله، المهم الآن أن يترجم الكتاب الأول وبعدها الحبل على الجرار، وكما يقول عدنان خاشقجي، المهم الحصول على المليون الأول، بعدها ستتوالى الملايين، لكن ملايين النقود ستذكرني بملايين الناس التي لم يبتسم لها الحظ رغم أنها ما توقفت عن دغدغته ليلا ونهارا.

  • نص لـ محمد الأصفر، روائي ليبي مقيم في بون
Amal, Hamburg!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.