ليس غريباً أن تدعم منظمة PEN International، التي انطلقت من لندن عام 1921 بمبادرة من مجموعة من الكتّاب الإنجليز والفرنسيين، مبادرة PEN سوريا، لتمنح صوتاً سورياً مكانه في هذه الشبكة العالمية. صوت وُلد في المنفى، لكنه سرعان ما شق طريقه نحو الداخل ليصبح شاهداً على رحلة متشابكة بين السياسة والإبداع، وبين الحلم والمعاناة. وليمد يد العون لكاتبات وكتّاب ظلّت كلماتهم هدفاً لنظام مستبد سعى إلى إسكات أصواتهم.
جاء الاعتراف الرسمي بهذه المبادرة خلال المؤتمر السنوي الحادي والتسعين الذي احتضنته مدينة كراكوف البولندية. إذ صوّت مندوبو مراكز PEN على قبول عضوية Syria PEN، ليصبح جزءاً فاعلاً من هذه الشبكة العالمية.

PEN Syria في مدينة في كراكوف/بولندا
الصدفة التي أطلقت الحكاية
في أواخر عام 2022، وعلى هامش نشاط سوري في برلين، التقى الكاتب والباحث السياسي طارق عزيزة بالسيدة غنى الشومري التي كانت تعمل حينها مع منظمة PEN. طرحت غنى سؤالاً بسيطاً ظاهرياً لكنه كان نقطة التحوّل. ” لماذا لا ينضم الكتّاب السوريون إلى PEN؟” يقول عزيزة “كنت أعرف عن PEN من خلال بعض الزملاء، لكن لم أكن أعلم كيف تُدار الأمور. وقد وضعتنا الصديقة غنى، مشكورةً، في اتصال مع السيد مينا ثابت، المسؤول عن منطقة الشرق الأوسط في المنظمة، وهناك بدأت الحكاية”.
بعد ذلك، ناقش عزيزة الفكرة مع مجموعة صغيرة من الكتّاب، من بينهم الروائي أنور السباعي الذي واصل العمل على المشروع بينما انسحب الآخرون تباعاً. اجتمعت المجموعة عبر الإنترنت مع مينا ثابت الذي شرح لهم خطوات التأسيس. “ضرورة وجود ما لا يقل عن عشرين عضواً مؤسساً، على أن تكون المجموعة متنوعة، وأن تنشر إعلاناً وتنفّذ نشاطاً تعريفياً علنياً يتيح للراغبين الانضمام. ومن هنا بدأ العمل الفعلي”.
“لا نريد فشلاً سورياً جديداً”
منذ اللحظة الأولى أدرك المؤسسون أنهم أمام أهم منظمة عالمية للكتّاب، لكن الطريق كان فيه تحديات ليست بقليلة. يقول عزيزة “التحدي الأساسي بالنسبة لي أننا لا نريد فشلاً سورياً جديداً. كثيراً ما يقال: السوريون مبدعون كأفراد لكنهم غالباً ما يعجزون عن الاستمرار في عمل جماعي”. ولأن معظم المؤسسين كانوا في المنافي، حمل المشروع في بداياته اسم “مبادرة PENسوريا في المنفى”. فلم يكن التواصل ممكناً مع الداخل، أو ادعاء تمثيل الكاتبات والكتاب هناك، وهم يعيشون تحت قبضة النظام أو سلطات الأمر الواقع الأخرى، فاقتصر العمل على الكتّاب في الخارج.
خلال هذه المرحلة انسحب بعض الأعضاء بسبب صعوبة التفاهم أو ضغط الحياة. غير أن أعداد الذين التحقوا بالمبادرة كانت أكبر من المنسحبين. ومع ذلك، واصل الفريق إعداد للوثائق والنظام الداخلي عبر اجتماعات مطولة على الإنترنت.
انتخاب مجلس الإدارة والتحول إلى الداخل
استغرق الأمر وقتاً للاجتماعات والمراسلات مع PEN International للتأكد من جدّية المبادرة، وسلامة الإجراءات والأوراق فيما يتعلق بالنظام الداخلي ودقة المعلومات حول الأعضاء وعملهم. ووفقاً لطارق المبادرة التي تبلورت مع الوقت، حازت على دعم وتشجيع من المنظمة الراعية، التي نصحت بانتخاب مجموعة تقود العمل، لتسهيل التواصل وتسريع وتيرة العمل. “في آذار 2024، انتُخب مجلس إدارة من خمسة أشخاص هم: طارق عزيزة رئيساً، رودي سليمان نائبة لرئيس مجلس الإدارة، أنور السباعي أميناً للسر، هدى أبو نبوت عضواً. وبعد بضعة أشهر، حلّ الزميل أسامة شاكر محل زميل آخر انسحب من المبادرة، وفق تسلسل عدد الأصوات في الانتخابات. ومع وجود مجلس منتخب مفوّض بتمثيل المجموعة، تسارعت الخطوات، وبدأت الإجراءات الجدية تقترب أكثر مع PEN International”.

PEN Syria في مدينة في دمشق
لكن التحول الأبرز جاء مع سقوط النظام السوري. عندها “حذفنا كلمة (المنفى)، وأصبح الباب مفتوحاً أمام الزميلات والزملاء من الكتّاب والصحفيين والمترجمين في الداخل”. “في 24 شباط 2025 عقدنا ندوة للتعريف بالمبادرة في دمشق، بمشاركة عدد من المهتمان والمهتمين، ومجموعة زميلات وزملاء من أعضاء المبادرة ومجلس الإدارة. وكانت لحظة فارقة، أن نعلن عن مركز معني بحرية الكتابة من قلب العاصمة”.
وضوح الموقف السياسي
لم يكن مسار التأسيس ثقافياً أو إدارياً محضاً، بل كان مشبعاً بالأسئلة السياسية. هل يمكن لمركز PEN سوري أن يكون محايداً، يرحّب بجميع الآراء، مهما كانت؟. يجيب عزيزة بحزم “لا يمكن أن تؤمن بحرية التعبير وتؤيد في الوقت نفسه نظاماً يقتل ويعتقل ويرتكب المجازر”.
هذا التمسّك الحازم من البداية بإعلان الموقف السياسي للمبادرة، أدى إلى انسحاب بعض الأعضاء الذين فضّلوا الحياد. لكنه بقي شرطاً أساسياً، ومنصوصاً عليه في الوثيقة التأسيسية.” حتى في نقاشاتنا مع PEN International أوضحنا أننا تعمّدنا الوضوح والمباشرة في موقفنا السياسي. لأنّ الغموض هنا يفتح الباب أمام موالين للنظام قد يخربون المبادرة. وفي النهاية اقتنعت المنظمة بوجهة نظرنا”.
اعتراف وتحديات قائمة

PEN Syria في مدينة أوكسفورد
بعد ثلاث سنوات من العمل على بناء المجموعة التأسيسية، والقيام بالإجراءت المطلوبة، وإعداد الوثائق وترجمتها إلى الإنجليزية، بدأ المركز يحظى باعتراف واهتمام من مراكز PEN International الأخرى حول العالم. بعد أن “دعينا العام الماضي إلى مؤتمر PEN السنوي في أكسفورد بصفة مراقب، ومثّل المبادرة كلّ من أنور السباعي ونور حريري، التي شاركت في ندوة عن الكتابة في زمن الحرب”. “كانت تجربة منحتنا مزيداً من الثقة ودافعاً للاستمرار، وفرصة للتعرف على المراكز الأخرى وبناء شراكات”.
لكن العقبات لم تنته. وبحسب طارق عزيزة، تعد أبرزها صعوبة حصول كتّاب الداخل على تأشيرات للمشاركة في المؤتمرات، وهو ما عاشوه حقيقةً حين حاولوا تأمين تأشيرة لإحدى الزميلات في الداخل، لتشارك معنا في المؤتمر السنوي المنعقد في بولندا، وجرى فيه التصويت على قبول عضوية المركز رسمياً. “ورغم دعم PEN لطلب التأشيرة لها وتأكيدهم على تحمل نفقات سفرها، وهو أمر استثنائي في عرف المنظمة التي تعتمد مرتكزها على التمويل الذاتي، لكن السلطات البولندية لم تمنحها التأشيرة”.
من التحديات الأساسية أن “التغيير في الداخل حتى الآن لا يبدو مبشراً بسبب ما يحصل، ولكننا نفكر جدياً بالحصول على ترخيص للعمل في سوريا. هل سنحصل عليه؟ وهل نحن ملائمون للشروط الحكومية؟ لا نعرف بعد. لكنّ ما نحن واثقون به هو أنه سواء استطعنا الترخيص أم لم نستطع، سنحاول خلق المساحات الممكنة للنشاط في الداخل ولن ننقطع عنه، ونترك تقييم الوضع للزميلات والزملاء في الداخل، وعلينا أن ننسق معهم”.
مظلة PEN ليست مركزية
يؤكّد عزيزة أن علاقة المركز بالمنظمة الأم تقوم على الاستقلالية تحت مظلة واحدة “PEN مظلة عالمية. أما المراكز فمستقلة لكنها ملزمة بالقيم الأساسية: وأهمها حرية التعبير والإبداع، رفض أشكال التمييز كافة، التضامن مع الكتّاب حول العالم. ولا يوجد دعم مالي مباشر، فالتمويل يعتمد على اشتراكات الأعضاء والتبرعات غير المشروطة”. وهذا الطابع يجعل المركز السوري معنياً بقضايا حرية الكتابة في العالم، لا في سوريا فقط، مع المشاركة في حملات التضامن والأنشطة الجماعية.
خطط المستقبل وأحلام بعيدة
رغم الطابع الطوعي البحت، يسعى PEN سوريا إلى بناء شراكات مع مراكز PEN الأقدم، ومع منظمات ثقافية في بلدان إقامة أعضائه، لتوفير فرص للنشر والترجمة وتنظيم الفعاليات. كما يعمل على إعداد مشاريع قادمة مثل الملتقيات الثقافية والندوات الفكرية والورشات الإلكترونية، إلى جانب فتح باب الانتساب أمام الكتّاب والكاتبات من مختلف الخلفيات. ” نحن نرحب بالتنوع السوري كله. والمجموعة المؤسسة تجاوزت الأربعين عضواً نصفهم تقريباً من الشباب وما يقرب من 45% منهم من النساء، وينتمون إلى ثقافات ومناطق سورية متنوعة”.
“نحن سعداء بالتأسيس لكننا نشعر بمسؤولية كبيرة. الجدية في تنفيذ الخطط والأنشطة شرط استمرارية المركز، ونحن مصرون على المواصلة، لأن معركة الحرية لم تنتهِ بسقوط النظام البائد. كما نطمح أن تستضيف سوريا يوماً ما إحدى دورات مؤتمر PEN Internationalالسنوي، حتى لو بدا حلماً بعيداً”.
PEN International

Pen سوريا
المظلة التي تجمع الأقلام من كل أنحاء العالم. منذ تأسيسها، تحولت إلى شبكة تضم أكثر من 130 مركزاً في قارات مختلفة. يجتمع أعضاؤها على مبدأ واحد: الدفاع عن حرية التعبير وصون كرامة المبدعين، أياً كانت لغاتهم أو بلدانهم أو انتماءاتهم السياسية.
ومع تطور الزمن، لم تعد المنظمة مقتصرة على الشعراء والروائيين، بل باتت تشمل الصحفيين والمترجمين والناشرين والمدونين والكتّاب الإلكترونيين. لتصبح صوتاً عالمياً يذكّر الحكومات بأن الكلمة لا تُسجن ولا تُقمع.
