“نهاية لغتي تعني نهاية عالمي” مقولة لـ لودفيج فيتجنشتاين!
عندما وصلت إلى ألمانيا أذكر أنني أخذت بكتاب أمي لتعلم اللغة الألمانية فوراً. وأول كلمة وجملة تعلمتها كانت Hallo, wie geht es dir? وتعني مرحبا، كيف حالك؟
أذكر أنني قرأتها أكثر من مرة وجعلت أمي تلقنها لي، وكنت أتمعن بالصوت وطريقة إخراجها للحروف. في ذلك الوقت أدركت صعوبة هذه اللغة والمسيرة الشاقة التي تنتظرني. كنت أمشي في الشارع وأسمع صخباً، الناس من حولي كانوا يتكلمون ويضحكون ويصرخون، وأنا عاجزة عن إخراج ما في داخلي ورغبتي الشديدة لسماع قصصهم والتواصل معهم. هذا العجز كان يرافقني كل يوم وكنت أتلمس هذه الحدود التي تحيطني طوال الوقت. كان عالمي صغيراً، صغيراً جداً لا يسع إلا قلة قليلة من الأشخاص. عندها عرفت أن المدرسة ستكون طوق نجاتي الوحيد.
الالتحاق بالمدرسة
بعد شهور من الانتظار دخلت صفاً يدعى بالـ IVK. كان صفاً للأجانب بمدرسة قريبة من المنزل. في هذا الصف كنت أتعلم اللغة الألمانية وبجانبها الحساب واللغة الإنكليزية. بعد فترة لاحظت أنني لم أتعرف على طالبٍ ألمانيٍّ قط. كنت أمارس اللغة الألمانية مع معلمتي فقط. أدركت حينها أن حدود عالمي لا زالت موجودة إلا أنها توسعت قليلاً لا أكثر.
في الاستراحة كنت أتناول الطعام مع صديقتي الكورية ونتبادل أطراف الحديث بمفردات قليلة، فيكون الصمت ثالثنا. والقاعة كانت تضج بصخب طلاب يثرثرون، ويضحكون، ويلعبون، وأنا بينهم عاجزة ألتهم طعامي بصمت.
مرحلة الثانوية
بعد مرور سنة حصلت على درجة الـ B2 باللغة الألمانية. وانتقلت إلى المدرسة العامة فانخرطت بالمجتمع الألماني لأول مرة وأحسست وكأنه أول يوم لي في ألمانيا. مع مرور الوقت تعرّفت على الكثير من الأشخاص وكان كل همّي أن أحصل على درجة الأبيتور (الشهادة الثانوية)، والدخول إلى الجامعة.
إلا أن هذه الحدود التي كنت أظن أنها قد اندثرت، باتت واضحة أمامي أكثر. في سنوات الثانوية العامة أحسست أن الأساتذة لم يفهموني، لأنني كنت الوحيدة في الصف التي لم تكن تتحدث الألمانية بشكلٍ سليم. عندما كان يحين وقت إعطاء العلامات الشفهية كانت المعلمة تنظر إلي وكأنني كائن غريب، أنظر لها وأمل منها إعطائي درجة أفضل من الفصل الماضي تستحق جهدي وسهري. إذ أنني كنت أستغرق ساعات في حل وظيفة معينة. ولكن هذه الجهود ظلت في زاوية غير مرئية لدى أساتذتي. فتعطيني المعلمة درجة ثابتة. فأعود إلى مقعدي وعيني تسكنها الخذلان.
النظام الدراسي الألماني
عندما تعرفت على طلاب بنفس قدراتي لاحظت أن أغلبهم كانوا يعانون من نفس المشكلة، وكانوا يشكون لي الضغط الكبير الذي يقع على عاتقهم وعن عدم فهم الأساتذة لهم. ما جعلني أتساءل إذا ما كان هناك خلل حقيقي في النظام الدراسي نفسه.
لمعرفة هذا الخلل علينا أن نلقي نظرة على دراسة Pisa. هذه الدراسة تقام كل أربع سنوات، وتحسب درجة كفاءة النظام الدراسي في أغلب دول العالم، بالاستعانة باختبارات الحساب والقراءة والعلوم، لطلاب في الخامسة عشرة من عمرهم. وفي تقرير عام 2018 أي آخر المستجدات كان واضحًا أن الفرص التعليمية المتاحة في ألمانيا تعتمد وبشكل كبير على الخلفية الاجتماعية للطالب. ففي ألمانيا، سجل طلاب من خلفيات اجتماعية بسيطة ومن أصول مهاجرة نقاطا أقل. ولاحظ علماء التربية والتعليم بأن هذه الفجوة تكبر، وبالأخص بعد جائحة كورونا.
تخطي الحدود
في ظل هذا النظام، الذي أعتبره ظلمني ولم يعطِ لطلاب مثلي حقهم، استطعت أن اتعلم دروسا حياتية ساعدتني بتخطي هذه المرحلة والحصول على الشهادة. بدايةً قدمت لي منحة Grips Gewinn فرصة التعرف على أشخاص كانوا يشبهونني ويعانون من نفس المشاكل والعراقيل. عدا عن المساعدات المالية لشراء الكتب وحضور دورات إضافية لتحسين لغتي.
ثانياً تعلمت في هذه المرحلة أن أعترف بالحاجة للمساعدة. في بداية الأمر كنت أشعر بالخجل من أساتذتي وزملائي ولم أتكلم عن مشاكلي عموماً. إدراكي بأهمية التواصل مع الآخرين وطلب المساعدة وكذلك تقديمها جعلني أنظر لمشاكلي من منظور أخر، وأصبحت أحلها بشكل أسرع وأقل تعجيزية.
ثالثاً تعلمت أن الدرجات الدراسية ليست هي من تُعرّف الطالب ولا تكوّن هويته، بغض النظر عن ما يجزمه بعض الأساتذة! إن التعرف على الذات، ينبع من معرفة اهتماماتنا وما نحب وما نكره، هذه هي الأشياء الأساسية التي نتعلمها في هذه الرحلة، باقي الأمور مهمة ولكن بدرجة أقل..
أما عن حدود عالمي فإنها توسعت وكبرت، ومع كبر عالمي كبرت مسؤوليتي.. أتذكر في هذا السياق مقولة لكافكا: “في ظل معركتك مع العالم، ساعد هذا العالم”.
- Text and Foto: Shereen Sayda