تواجه النساء اللاجئات صعوبات وتحديات لم تكن تتوقعنها قبل الانتقال لمجتمعها الجديد هنا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتأهيل أو الحصول على فرصة عمل، ولأسباب عديدة منها حاجز اللغة! غير أن هناك نماذج قوية استطعن تحدي الغربة القاسية، وانخرطن بالأنشطة المجتمعية، أو تطوعن بالمنظمات وشاركن في الفعاليات، الأمر الذي ساعدهن باكتساب اللغة والوصول لفرص أكثر.. إن كسر النساء للحواجز التي تحد من قدرتهن، دليل على رغبتهن بالمشاركة وصنع الفارق.
مرحلة الاكتشاف والبحث عن الذات
بين عشية وضحاها وجدت السيدة الكردية هيرو هيوا أمين نفسها تنتقل من موطنها إلى المانيا نتيجة اضطهاد تعرض له زوجها الذي كان ناشطا سياسيا في صفوف أحد الأحزاب العراقية! وبالنسبة لامرأة درست الهندسة الكهربائية، ولديها ثلاثة أبناء، وثلاث سنوات من الخبرة بمجال التعليم، وانتقلت فجأة إلى بلد لا تتحدث لغته! فمن الطبيعي أن تواجه مشكلة بتقديم نفسها وممارسة نشاطها العملي.
واجهت هيرو الكثير من الصعوبات عند قدومها، لكنها استطاعت بإرادتها القوية ان تكسر أكثر من صخرة، ففي سبيل الحصول على عمل، حاولت تعديل شهادتها الجامعية لتتوافق مع النظام الالماني، إلا أنها قوبلت بالرفض! وبعد فترة اكتشفت امكانية حصولها على عمل بمجال الهندسة الكهربائية، رغم سيطرة الرجال على هذا التخصص في ألمانيا! تقول هيرو إن مثل هذه المعلومة شكلت لها صدمة، ففي العراق يعتبر هذا التخصص مرغوبا للنساء، وكانت تعتقد أن السنوات التي قضتها بالدراسة لن تذهب دون أن تعود عليها بفائدة.
لا مكان للاستسلام!
عندما قابلتها مؤخرا لغرض كتابة هذه المادة، بدأت هيرو تتذكر البدايات.. أخبرتني كيف أنها لم تستسلم ولم تبقى في المنزل! في العام 1998 استطاعت بمساعدة زوجها العمل في مكتب بريد لمدة ساعتين يوميا، حينها تمثلت مساعدة الزوج بالبقاء في المنزل مع الأولاد. بعد فترة لم تكتفي هيرو بالعمل لمدة ساعتين، انخرطت بالمجال التطوعي مع منظمة دياكوني، وأسست معهم مجموعة للنساء اللاجئات المقيمات في مدينة نوردرشتيدت تحت اسم Mondfrauen، بهدف اللقاء شهريا وتنظيم رحلات وأنشطة اجتماعية وثقافية تساعدهن بالحديث عن مشاكلهن، وتزويدهن بمعلومات عن مجتمعهن الجديد. تضمنت هذه المجموعة أكثر من 50 جنسية، واليوم تعتقد هيرو أن تلك الخطوة كان لها الفضل بكثير من الأمور التي ساعدتها على الاندماج وبناء علاقات كثيرة وواسعة مع المجتمع الألماني، فهناك التقت بشخصيات ساعدتها للحصول على فرص عمل أفضل صقلت خبراتها.
تتحدث هيرو إلى جانب الكردية لغتين، العربية والإنجليزية، حيث اكتسبت اللغة العربية خلال اقامتها بمدينة الموصل التي درست في جامعتها.. بينما كنا نتحدث شعرت بأن لهذه المرأة عزيمة لا تقهر، لم تتغلب فقط على الظروف، بل قهرت حتى المرض! في 2015 أصيبت هيرو بالسرطان، لكنها ترى بأن لذلك فضل في جعلها تقاوم وتستمر بمساعدة الناس، وتعتبر مساعدة الآخرين علاج نفسي ساعدها بالتغلب على الآلام.
التكريم على خدمة المجتمع
شهد العام الذي أصيبت فيه بالمرض مجيء أعداد كبيرة من اللاجئين إلى المانيا، فنشطت هيرو في مجال الترجمة لمساعدة العديد من هؤلاء، ورغم خضوعها لعملية جراحية وجلسات علاج كيماوي، إلا أن ذلك لم يوقفها عن القيام بدور ترى أنه كان ضرورويًا، وركزت على تقديم المساعدة للنساء بشكل خاص. وكما أخبرتني كانت لا تعود إلى البيت للراحة بعد ان تخرج من المستشفى، بل تتجه للمكتب! ولم تكن تكتفي بإنجاز أعمال الترجمة لطالبي اللجوء، بل تشرف على تحضيراتهم لجلسات المحكمة مع المسؤول القانوني في دياكوني.
ورغم ان قصص الرعب التي واجهها الهاربين من الحرب لم تكن تتركها تنام الليل، وأثر ذلك على نفسيتها، إلا أنها كانت ترى السعادة والاطمئنان في عيون من تساعدهم مصدرا للقوة.. لم تخجل قط بسبب مرضها، وعندما تساقط شعرها بسبب العلاج، استعانت بشعر مستعار حتى لا تنقطع عن الذهاب إلى المكتب. كرمت هيرو من قبل منظمة دياكوني بهدية Leuchtturm des Nordes 2009 كأنشط متطوعة عملت مع اللاجئين، ومنحت شهادة من حزب السلام الأخضر الدولي، كانت سببا في رفع معنوياتها وجعلها تطلب مساحة في حديقة “اشتات برك” لعمل أنشطة ثقافية سميت بـ Interkulturelle Garden حيث يجتمع نساء ورجال للحديث عن ثقافات بلدانهم المختلفة، وقد ألهم ذلك كتاب من اللاجئين قاموا بجمع 60 قصة لأشخاص من 40 جنسية، ستصدر في كتاب قريبا.
مشاريع لمساعدة القادمين الجدد
أسست هيرو مجلة Wir Hier التي تعنى بقضايا اللاجئين من جنسيات مختلفة. في عام 2017 صدر العدد الأول من المجلة باللغة العربية، وبعد عام كانت المجلة تنشر مقالات بلغات مختلفة منها العربية، الألمانية، الدارية والفارسية، قبل أن يستقر صدورها بالألمانية وبشكل دوري، حيث تطبع 2000 نسخة. مع بداية العام 2018 انتقلت هيرو للعمل مع البلدية في مشروعPartizipieren statt Risegnieren، نظمت من خلاله عدة أنشطة كالتوعية الاسرية، والإشرف على عمل أفلام قصيرة تناقش قضايا الاندماج وصعوبته لدى القادمين الجدد، ونظمت نشاطاً أسبوعيا لتعليم اللغة للأطفال بالتعاون مع المتطوعات.
المرأة الحديدية
في 2019 أجريت لهيرو ثلاث عمليات جراحية أثرت على حبالها الصوتية، مما جعلها ملزمة على البقاء بالمنزل وعدم التحدث لأكثر من ساعتين في اليوم، وخلال أزمة كورونا التي حدت من الأنشطة المجتمعية، لم تتوقف هيرو عن تقديم المساعدة! وشخصيا رأيتها تقوم بعقد جلسات لمتابعة أمور اللاجئين بمراكز الإيواء، وقد استعانت بعدد من المتطوعين الرجال والنساء، حيث وزعتهم للقيام برش المعقمات والحرص على النظافة، وبإشرافها أيضاً تكونت مجموعة من المتطوعين الذين عملوا على انتاج كمامات قماشية وصل عددها إلى 4000 كمامة، وزعت على لاجئين من جنسيات مختلفة، وعلى عيادات كانت بحاجة لها.
عندما قررت الكتابة عن هيرو هيوا أمين، طلبت أن أقابلها، فوجدت نفسي أمام امرأة يمكن القول أنها صنعت قدرها بنفسها، تحدت الموت مرات عدة، غير أن ما أدهشني فيها امتنانها للمرض الذي أعطاها الإصرار لمواصلة النشاط وخدمة الآخرين..
- سماح الشغدري
كاتبة وشاعرة من اليمن