العدالة في سوريا.. ترف مؤجّل أم حاجة ملحّة؟ Hussein Malla/AP/dpa
23. مايو 2025

العدالة في سوريا.. ترف مؤجّل أم حاجة ملحّة؟

لماذا لا نتعلّم من تجارب غيرنا؟ ولماذا نظنّ أننا نختلف عن غيرنا من شعوب المنطقة، لا بل من شعوب الأرض كلّها؟ في كل مرة يعصف النزاع ببلد ما، نكرر الأخطاء ذاتها، ونظنّ أن العدالة ترف مؤجل أو مطلب خيالي. لكن تجارب التاريخ تثبت أن الشعوب التي اختارت مواجهة الحقيقة، مهما كانت قاسية، استطاعت أن تبني مستقبلاً مختلفاً.

سوريا، بعد 14 عاماً من القتل الممنهج الذي ارتكبه نظام الأسد على أيدي مرتزقته وحلفائه. هل ستعيد إنتاج الصراع تحت عنوان “الانتصار” وتتخذ مما حدث في الساحل السوري نهجاً؟ أو ستبحث عن مسار للعدالة والمصالحة، كما فعلت ألمانيا بعد سقوط النازية، ورواندا بعد واحدة من أبشع الإبادات في القرن العشرين؟ وهل ستقبل بوجود محاكم دولية كما حدث في كل منهما؟

سوريا وأعباء الماضي المعقد

بلا شك، لكل تجربة خصوصيتها. فالوضع السوري بالغ التعقيد. بين عقوبات اقتصادية امتدت لعقود ونظام سلطوي حكمها لأكثر من خمسين عاماً بالحديد والنار تحت شعار “الممانعة”، وصراعات إقليمية تتحرك على أرضها بدوافع توسعية. هذا عدا عن التنوع الديني والإثني والمناطقي، الذي يشكل مصدر غنى، لكنه قد يتحول إلى أداة للتمزيق إذا لم يُبْنَ على أساس مدني جامع.

العدالة الغائبة في سوريا

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ارتكب نظام الأسد انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان عبر القصف العشوائي، الاعتقال التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب، كلها جرائم موثقة، لكن دون محاسبة تُذكر.

وفي ظل غياب محكمة سورية مستقلة، لجأ حقوقيون سوريون ونشطاء بدعم من منظمات دولية ومحاكم أوروبية، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا، إلى ملاحقة مجرمي الحرب عبر مذكرات توقيف ومحاكمات مستندة إلى الولاية القضائية العالمية. كما أنشأت الأمم المتحدة “الآلية الدولية المستقلة” (IIIM) لجمع الأدلة وتحضير ملفات للمستقبل. لكنها تبقى جهوداً متفرقة، محدودة الأثر داخل سوريا نفسها.

محاكمة النازيين ونزع الفكر المتطرف في ألمانيا

بعد هزيمة ألمانيا النازية، لم يكتف العالم بإزاحة هتلر، بل أراد محاسبة رموز الإبادة والعدوان. فجاءت محاكمات نورمبرغ كأول تجربة لمحاكمة مجرمي حرب على المستوى الدولي، وأسست لمفاهيم قانونية جديدة، كـ”الجرائم ضد الإنسانية”. لكن ألمانيا لم تعتمد على المحاكم فقط. بل أطلقت عملية “نزع النازية”، التي استهدفت مؤسسات التعليم، القضاء، والإعلام، بهدف اجتثاث الفكر النازي من جذوره. رغم بطء العملية وتعقيدها، ساهمت تدريجياً في إعادة بناء المجتمع الألماني على أسس ديمقراطية.

التجربة في راوندا

أما في رواندا فكانت المأساة مروّعة وحصيلتها 800 ألف قتيل خلال 100 يوم. معظمهم من أقلية التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين على يد متطرفين من قبيلة الهوتو، بعد إسقاط طائرة الرئيس الرواندي “جوفينال هابياريمانا”، وهو ما مثّل الشرارة التي أطلقت موجة العنف. كان القتل ممنهجاً، شمل استخدام قوائم مستهدفة، تعبئة شعبية عبر الإعلام وخاصة إذاعة RTLM، واستُخدمت الأسلحة البدائية مثل المناجل، بالإضافة إلى القتل الجماعي في الكنائس والمدارس. بعد انتهاء المجازر على يد “الجبهة الوطنية الرواندية” بقيادة بول كاغامي، واجهت رواندا دولة مدمّرة، مجتمعاً مفككاً، وأكثر من 120 ألف معتقل متهمين بارتكاب أو المساهمة في الجرائم.

العدالة بالمحكمة.. والمجتمع في رواندا

أمام هذا الحجم من الجرائم، لم تكن المحاكم التقليدية كافية. ما دفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا (ICTR) ومقرها في أروشا (تنزانيا). والتي اختصت بالجرائم بين يناير وديسمبر 1994، بما فيها الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب. وحاكمت نحو 93 شخصاً من كبار المسؤولين كالوزراء، الجنرالات، رجال الدين والإعلاميين.

ومن أبرز المحاكمات محاكمة رئيس وزراء رواندا أثناء الإبادة  جان كامباندا الذي أدين بالإبادة الجماعية. ومدير إذاعة RTLM فرديناند نهيمانا الذي أدين بالتحريض المباشر على الإبادة. ورغم أنها استمرت لمدة 10 سنوات وكانت تكلفتها ضخمة إلا أنها أرست سابقة قانونية مهمة، لا سيما اعتبار الاغتصاب جريمة إبادة. وأكدت أن المحرّضين الإعلاميين يُمكن اعتبارهم مجرمي حرب.

محاكم “الغتشاتشا” في رواندا

لكن الدولة الرواندية لم تكتفِ بالمحكمة الجنائية الدولية ولجأت أيضاً إلى محاكم “الغتشاتشا” (Gacaca Courts). وهي نظام عدالة تقليدية مجتمعية، أُعيد إحياؤه عام 2001 وفعلياً بدأ العمل عام 2005. والغتشاتشا تعني “العشب” بالكينيارواندا، حيث كانت المجتمعات تحل نزاعاتها تقليدياً تحت شجرة. أما الهدف منها فتمثّل بمحاكمة مئات آلاف المشاركين في المجازر، خصوصاً من الطبقات الدنيا.

عمل في هذه المحاكم أكثر من 12 ألف محكمة في أنحاء رواندا. نظرت في أكثر من 1.2 مليون قضية، ساعدت في الكشف عن الحقيقة، وعودة المهجرين وشجّعت على الاعتراف والمصالحة بدل الانتقام. لم تكن تلك المحاكم مثالية واتهمتها منظمة Human Rights Watch بكم أفواه المعارضين لها وبارتكاب انتهاكات واضحة وفقاً للشهادات التي جمعتها، لكنها أتاحت للضحايا سماع الحقيقة، وفتحت المجال للمصالحة المجتمعية، وسط بيئة حاولت الدولة أن تبني فيها سردية موحدة للمستقبل.

أوجه الشبه والاختلاف: دروس لسوريا

في مقارنة التجارب الثلاث، نجد أن العدالة الانتقالية تحتاج إلى أمرين أساسيين: إرادة سياسية، ودور فعّال للمجتمع. في ألمانيا ورواندا، ساهمت الإرادة الدولية أو المحلية في دفع عجلة المحاسبة. فألمانيا ركّزت على العدالة الجنائية والإصلاح المؤسساتي، ورواندا دمجت العدالة مع المصالحة، أما سوريا التي بدأت للتو مرحلة جديدة بدون العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، فحتى اليوم لم تبدأ المسار فعلياً. المحاكم الدولية (إن قبل بها السوريون) وحدها لا تكفي، إن لم تدعمها إدارة محلية وتعاون شعبي.

العدالة ليست ترفاً

العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل شرط أساسي لأي سلام دائم. قد تبدو اليوم بعيدة في سوريا، لكن تجارب ألمانيا ورواندا تؤكد أن البداية قد تكون بطيئة، لكنها تثمر إن توفرت الإرادة. لا يمكن لسوريا أن تتجاوز مأساتها دون محاسبة. فبدون عدالة، لا مصالحة ولا مستقبل.

للمزيد عن التجربة الألمانية هنا

Amal, Hamburg!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.