لم تكن وفاء تظنّ أن يومها سيتحوّل إلى كابوس يمتد على مدار أسابيع ثمّ أشهر. وأن ما حدث معها ستتبعه سلسلة من مواقف عنصرية قاسية زادت من آلامها. ففي مساء يوم 27 سبتمبر، حيث كانت محطة هامبورغ الرئيسية تعجّ بالمسافرين والمارة كالعادة، تعثرت وفاء على درجها فجأة ووقعت.
وبسبب الآلام الشديدة في كتفيها عجزت عن الحراك. “كنت أصرخ طالبة المساعدة. لكنّ صرخاتي ضاعت وسط ضجيج المحطة، وعيون المارة الذين كانوا يمرّون دون اكتراث، كأنني غير موجودة. ربما ظنّوني مشردة أو سكرى، ولم يحاول أحد حتى أن يقترب مني، وكلّ ما كنت أريده أن يناولني أحدهم الهاتف من حقيبتي”. ووسط هذا التجاهل، قدمت صبية مع صديقها المساعدة لوفاء حتى وصلت سيارة الإسعاف، ومن هناك بدأت رحلة أخرى من الألم داخل المشفى.
برودة المشفى.. وبرودة القلوب
قد يبدو ما حدث مع وفاء في البداية هيناً، فحين وصلت إلى المشفى، تركوها لساعات في قسم التصوير، حيث المكان باردٌ حدّ العذاب. “اضطروا إلى تمزيق سترتي لكشف موضع الإصابة، فزاد البرد قسوة على الألم. وصرخت مراراً طلباً لغطاء، لكن الأطباء والممرضين والموظفين كانوا يمرون بجانبي دون اكتراث، إلى أن جاء أخيراً شخصٌ ما ووضع غطاءً على جسدي”.
وعندما دخلت غرفة الأشعة، طلب منها الطبيب أن تقف بمفردها. فأخبرته أنها مصابة بكسر في كلا الكتفين، ولا تستطيع الحركة، لكنه ردّ ببرود “بلى تستطيعين” ” لم أجد خياراً سوى إجبار نفسي على النهوض، دفعت جسدي إلى الأمام ممسكةً برجليّ كخطاف، حتى تمكنت من الوقوف. لم أفهم لماذا رفض مساعدتي، ربما لأنه ظنّ أن عليه، كامرأة عربية، ألا يلمسني.. لكنه طبيب!”. بعد التصوير، طلب منها العودة إلى السرير، وحين سألته أن يخفض ارتفاعه حتى تتمكن من الجلوس دون استخدام يديها، رفض أيضاً.
الانتظار الطويل.. والألم
وبعد الفحوصات أبلغوها أنها بحاجة إلى عملية جراحية مستعجلة، لكن بسبب الضغط على العمليات، عليها أن تنتظر من يوم الجمعة إلى يوم الإثنين. “ليلة بعد ليلة، كان الألم لا يُحتمل، ورغم المسكنات القوية التي أعطوني إياها، لم أتمكن من النوم، كما زادت من عجزي عن الحركة”.
ممارسات ملائكة الرحمة العنصرية
في ليلة الأحد، عند الثانية فجراً، احتاجت جارة وفاء في الغرفة، وهي سيدة مسنّة، إلى مساعدة لدخول الحمام. فطلبت لها ممرضة. وبعد مساعدتها. “وقفت الممرضة مستندة على الجدار المقابل لسريري في العتمة بانتظار خروج جارتي من الحمام. قرأت اسمي بصوت مسموع، ثم سألتني: اسمك وفاء، وهو اسم عربي؟ وحين أجبتها أردفت: لكن كنيتك ألمانية؟ من أين أنت؟
أخبرتها أنني من سوريا، فسألتني: من أي مدينة؟ فأجبتها: دمشق، وقد غيرت كنيتي”. فقالت بلهجة ساخرة: لكن دمشق مدينة آمنة، لا حرب فيها، فلماذا أتيتم إلى هنا؟ فأجبتها: كان فيها حرب، لكننا لم نهرب بسبب الحرب، وإنما بسبب النظام القاتل. فلم تقتنع، وظلّت تصرّ: لا ، لا أنتم هنا منذ 2016، عندما فتحت ميركل الحدود. ورغم أنني أخبرتها بأننا لم نأتِ في ذلك العام، أصرّت على رأيها”.
شعرت وفاء بخوف شديد، خاصة وأنها عاجزة عن الحركة، بينما هي بكامل قواها الجسدية والعقلية. “خفت أن تؤذيني، ولم ينقذني سوى خروج السيدة المسنّة من الحمام”. عندها روت لجارتها ما حدث، “فغضبت وقالت لي: لا يحق لها طرح هذه الأسئلة، لديها واجب علاجك حتى لو كنتِ عدوّتها، هذا ما أقسمت عليه”.
“إدارة المشفى حاولت التخلص مني”
عندما زارها أبناؤها صباح اليوم التالي، أخبرتهم بما حدث. فتوجّه ابنها إلى المدير، وروى له ما جرى. لكن بدلاً من اتخاذ إجراء. “جاء المدير غاضباً واتهمني بأنني مخطئة، قائلاً: الممرضة لا يمكن أن تتصرّف بهذه الطريقة، وأسئلتها لك طبيعية. أجبته: أنا مريضة، وشعرت بالخوف. لا يجب أن تتحدث معي بهذا الأسلوب، يجب أن تركز على علاجي فقط. وأخبرته أنني سأرفع دعوى، فعرض أن يحضرها لتعتذر. وافقت، فقد كان يكفيني اعتذارها. لكن الاعتذار لم يأتِ”.
بل في الساعة الثالثة صباحاً، جاءها طبيب ليخبرها بأنهم ألغوا عمليتها، وأنه لا يوجد مكان لها في غرفة العمليات. “قال إنه تكلّم مع طبيب صديق له في مشفى آخر، وسينقلني إليه فوراً. فهمت أنهم يريدون التخلص مني، فقد كانت أوراقي وسيارة الإسعاف جاهزة حتى قبل أن أعلن موافقتي”.
المشفى الجديد.. والنجاة أخيراً
وحين وصلت وفاء إلى المشفى الجديد، كانت المفاجأة أن اسمها غير مسجّل، لا لحجز العملية، ولا حتى لغرفة. وبقيت في قسم الإسعاف لساعات، بانتظار معرفة الأسباب التي أوصلتها إليهم. فحكت لهم ما حدث معها أكدت سائقة سيارة الإسعاف قصتها وحكت لهم ما سمعته في المشفى السابق.
“كنت في قسم الإسعاف لساعات وأولادي بانتظاري في الخارج. لا يعرفون وضعي ولا استطيع أن أتحدث معهم، فجوالي لم يكن معي. وبعد طول انتظارطمأنني الطبيب المسؤول وقال لي لا تقلقي، سنقوم بإجراءات دخولك وسنجري لك العملية”. وهنا بدأت إجراءات قبول وفاء في المشفى وخضعت لكل الفحوصات اللازمة من جديد، ثم تولّى كبير الأطباء إجراء العملية لكتفيها.
قرار المواجهة
قررت وفاء رفع دعوى ضد الممرضة والمشفى، لكنها تنتظر أولاً التأكد من حالة كتفيها وإجراء فحوصات دقيقة لكتابة تقرير طبي شامل. فما زالت حتى الآن غير قادرة على تحريك أصابعها، ولا بد أن تعرف مدى الضرر قبل اتخاذ الخطوة القانونية. “كان يكفيني اعتذار بسيط، لكنهم أصرّوا على إنكار الخطأ، وزادوا من معاناتي بدلاً من الاعتراف بالحقيقة”.
مازال لديها مشوار طويل مع العلاج الفيزيائي لكنها مستعدة للمواجهة، لأنها تعلم أن ما حدث لها لم يكن مجرد حادثة عابرة، بل ظلم لا يجب أن يمرّ بلا حساب.