قدمتُ إلى ألمانيا من مجتمع ينتزع منك خصوصيتك – بما فيها اسمك – لصالح العائلة والقبيلة! كوني قادمة من مجتمع شرقي يُستخدم فيه سوط الذكورة والدين والعادات لجلد المرأة، ووضعها في قفص العائلة المحكم وقيود السمعة التي تُشعر المرأة وكأنها خُلقت لهدف واحد: حماية لقب العائلة، دون أدنى اختيار. مشكلتي ليست في اللقب ذاته، بل في استخدامه كأداة لقمع حريتي ومصادرة حقوقي. لقد تمرّدت على تلك القيود عندما شعرت بأنها تتنافى مع الإنسانية وكرامة الفرد وخصوصيته. ولكن الغريب، أنه رغم إقامتي في ألمانيا، إحدى أرقى دول العالم المتحضر، إلا أنني وجدت نفسي في مواجهة مختلفة؛ حيث لا أسمع اسمي الأول عندما يناديني أحدهم. فاللقب وحده يرن في مسامعي، رغم رغبتي الكبيرة في أن يناديني الناس بـ”سماح”.
اختلاف الأسماء في ألمانيا
الأسباب في ألمانيا مختلفة. مناداتك باسمك الأول تحدث فقط في إطار ضيق، محصور بالأصدقاء والمقربين، أما في غير ذلك، فيُعد ذلك تجاوزًا غير مقبول. ولكن بالنسبة لي، فإن سماع اسمي الأول “سماح” أو “سموحة”، اسم المحبة والدلال، يُشعرني بسعادة تشبه فرحة طفل. إنه يُنعش روحي كموسيقى بأحب الأصوات إلى قلبي.
العبارة التي جلَدت هويتي في اليمن
عندما كنت في اليمن، كانت أكثر جملة تُثير غضبي هي: “هل تعرفي بنت من أنت؟”. تلك العبارة كانت تنتزع “سماح” من داخلي، وتستبدلها بـ”بنت القبيلة” أو “بنت الأسرة” ذائعة الصيت وسط اليمن. هذه الجملة، التي تكررت كثيرًا من أفراد الأسرة وغيرهم، كانت تُلقى كالسوط كلما حاولت اتخاذ قرار شخصي أعتبره حقًا طبيعيًا لي، بينما يرونه هم مساسًا بتقاليد الأسرة والقبيلة. مثلًا، عندما خلعت النقاب عن وجهي، أو عند استضافتي في برنامج تلفزيوني، أو حينما أصدرت ديواني الشعري الأول. وحتى عندما أعلنت رغبتي في الدراسة بكلية الإعلام.
كل هذه الأحلام والحقوق البسيطة كانت تُعتبر إساءة للقب الأسرة، لأني تجاوزت بها حدود الأعراف والتقاليد القبلية التي تُصر على وضع المرأة في قالب معين لا يجوز لها الخروج عنه. هذه القيود لم تفرضها العائلة فقط، بل شارك فيها المجتمع الذي يحاصرك بلقب العائلة والقبيلة. فمثلًا، عندما تجاوزت موكب الرئيس الأسبق في 2010، طلبت مني حراسته الشخصية الابتعاد عن الطريق بأسلوب فج ومتعالٍ. رفضت ذلك، فلاحقتني الحراسة واقتادتني إلى قسم الشرطة بتهمة “محاولة اغتيال رئيس الجمهورية”! ورغم تدخل شخصيات نافذة بالدولة ووزراء، إلا أن لقب عائلتي كان الضمان الذي منع سجني، حيث تم الإفراج عني بشرط العودة في اليوم التالي لاستكمال التحقيق. بل وصل الأمر إلى أن وزير الداخلية اتصل بي شخصيًا ليقول: “هل تعرفي بنت من أنت، ومن هم أهلك؟”. ورغم أن القضية حُولت إلى تهمة سياسية، إلا أن لقب عائلتي كان سبب نجاتي من هذه الورطة.
صخرة الألقاب التي أثقلت كاهلي
رغم المزايا الاجتماعية التي منحها لي لقب عائلتي، إلا أنها كانت بمثابة صخرة ثقيلة أحملها على ظهري. بل كنت أحمل صخرتين: اسم أسرة والدي واسم أسرة والدتي. كان الحمل ثقيلًا لدرجة أنني شعرت به حتى في أحلامي. والمخيف أن المجتمع اليمني ينتكس أكثر مع مرور الزمن في علاقته بالمرأة، بعكس منطق التطور. ففي البلد الذي حكمته النساء يومًا، والذي لا تزال تُتداول فيه أبيات شاعرة القبيلة غزال المقدشي، التي توفيت قبل قرابة 200 عام، وجدتُ أن إصدار كتابي الأول قوبل برفض من أحد أفراد الأسرة. هذا الشخص اعترض على وضع اسمي العائلي على غلاف الكتاب، معتبرًا ذلك عارًا يلحق بالاسم العائلي. وعندما رفضت طلبه، وصفني بـ”الوقحة”! حينها شعرت أن الصخرة التي أحملها زاد وزنها أضعافًا.
حنيني لاسمي الأول في ألمانيا
في إحدى المرات، ناقشت صديقتي الألمانية أرينا عن رغبتي في أن يناديني الناس باسمي الأول في ألمانيا. أخبرتني أرينا قصة طريفة عن نفسها، عندما زارتها صديقة يمنية لتهنئتها بحصولها على درجة الدكتوراه. نادتها صديقتها باسمها الأول “دكتورة أرينا”، لتتفاجأ أرينا وتلتفت يمينًا ويسارًا باحثةً عن المقصود. لم تتوقع أن تكون هي المقصودة، لأنها اعتادت أن تُنادى بلقبها فقط. لاحظت أرينا حنيني لاسمي الأول، وأني كدت أنساه في ألمانيا لقلة سماعه. وعندما زرتها في مكتبها العائد لرسام روسي، طلبت منه ترجمة اسمي “سموحة” إلى اللغة الروسية. وكانت النتيجة اسم “سمهشكا”، لكن وقعه على مسامعي أنعش روحي تمامًا كما يفعل اسمي “سموحة”.
الأسماء هوية وليست كلمات
بين ثقافتين مختلفتين تمامًا، أدركت أن صراعي مع اسمي ليس مجرد مسألة شخصية، بل هو صراع من أجل حقي البسيط في أن أكون “سماح”، الإنسانة التي ترفض أن تذوب في قوالب القبيلة أو الأعراف. أحب اسمي الأول “سماح”، الاسم الذي صادرته الأعراف في اليمن، وغيبّه برستيج الألمان هنا. الاسم ليس مجرد كلمة، بل هو أول حق نملكه كأفراد، وأول تعبير عن هويتنا الإنسانية التي نحاول استعادتها، رغم كل القيود والاختلافات الثقافية.