افتُتح أولمبياد باريس 2024 بعرض مدهش على نهر السين، تجسدت فيه معالم فرنسا التاريخية، وجمعت بين الفن والتاريخ والسياسة. هذا الحدث التاريخي لم يكن مجرد احتفال رياضي، بل كان منصة لإعادة التفكير بالقيم والتقاليد، وتأكيد حرية التعبير والفن في وجه التحديات الحديثة. فرنسا، بعرضها الشامل، أثبتت مرة أخرى أنها ليست فقط عاصمة الأنوار بل عاصمة الحرية والإبداع.
الفن حين يعيد النظر في التاريخ
حاول المنظمون لحفل افتتاح أولمبياد باريس تقديم الثقافة الفرنسية من خلال منظورهم الخاص. واللوحة التي عرضت على نهر السين كانت “مأدبة الآلهة” للفنان ڤان بيجليرت، حيث اجتمعت الآلهة في أوليمبوس للاحتفال. اعتقد الكثيرون ومن ضمنهم الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان أنها لوحة العشاء الأخير لدافنشي، ما أثار عاصفة من الانتقادات المبنية على فهم خاطئ، معتبرين أنها تجديف بالقيم المسيحية.
وقد تحدث مؤتمر الأساقفة الفرنسيين عن “استهزاء بالمسيحية”. ولكن لماذا يؤدي تصوير مفترض للمشهد مع أشخاص كويريين لإثارة الكثير من الغضب والكراهية؟ على الرغم من أن قيم المسيح نفسه تتبنى قبول الجميع وعدم استبعاد أحد. تلك اللوحة التي فتحت نقاشات جريئة حول رؤية جديدة للتاريخ والمستقبل، ودور الفن الموجود في كل مفاصل الحياة، لتحفيز الفكر والتغيير. وهذا ما دافع منظمو الأولمبياد عنه، مؤكدين أن هدفهم ليس الاساءة بل من خلال تلك اللوحة حاول الفنان توماس جولي تقديم إعلان سياسي موجه ضد اليمين المتطرف وصعوده في فرنسا حاملاً فكرة السخرية من الآلهة القديمة.
الجدل حول فيليب كاترين
كما أثارت أيضاً أغنية الفنان الفرنسي فيليب كاترین (Philippe Katerine) انتقادات واسعة باللغة الفرنسية والعربية أيضاً. كاترین، الذي يشتهر بإثارة الجدل في بعض أعماله، عاد بعد الافتتاح ليشعل النقاش مرة أخرى بأغنيته الجديدة قائلاً :”ليس لدي فكرة عن الجدل الذي صار حول أغنيتي، لكن لحسن الحظ هناك جدل وهناك اختلاف بين الناس. فلو كان الجميع متفقين، لأضفنا فاشية أخرى على ما لدينا”. هذه العبارة تعكس فلسفته في أن الفن يجب أن يثير التساؤلات ويخلق الحوار، حتى لو كان ذلك عبر الجدل. ويمكن أن يأخذ الجدل طابعاً آخر لو استطعنا فهم كلمات الأغنية يجعلنا ندرك ما الذي يقصده، مع الشكل الذي ظهر فيه. فهذا العرض هو عرض متكامل لأغنية تتضمن الصوت مع الأداء مع المظهر مع الكلمات، ليس منصفاً أخذ جزئية بمفردها ونسيان الكل المتكامل معها. وهنا ترجمة بعض مقاطع الأغنية التي تقول:
“لو بقينا عراة هل كانت هناك حروب؟ لا
أين سنخبئ السلاح لو كنا عراة؟ أين؟
أعرف في أي مكان تفكرون.. لكن لا، هذه فكرة غير جيدة.
لن يكون هناك أغنياء ولا فقراء عندما نعود عراة.. نعم..
لنعش كما ولدنا.. عراة
عراة..
سنكون كلنا أخوة وأخوات.. عندما سنكون عراة..
لنعش كما ولدنا
عراة .. ببساطة.. عراة..
التعري كرمز للحرية والمساواة
فكرة العودة إلى الطبيعة والعيش دون قيود مادية أو اجتماعية، بحيث يصبح الجميع متساوين. فالتعرية هنا ليست فقط فيزيائية بل رمزية أيضاً، تعبيراً عن الشفافية والصدق والمساواة. إنها دعوة للتفكير في عالم خالٍ من الحروب والتفاوت الطبقي، ليتساوى الجميع في الإنسانية. فيليب كاترین بفنه المثير للجدل يفتح باباً واسعاً للنقاش حول مفاهيم الحرية والمساواة. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، فإنه يظل فناناً يستخدم الفن كوسيلة للتعبير عن أفكار جديدة جريئة وغير تقليدية. والجدل الذي أثاره يعكس قوة الفن في تحويل الفكرة إلى حديث الساعة، ومناقشة ما قد يكون غير مألوف للبعض لكنه ضروري للجميع.
الفن كوسيلة لتخليد الحرية
كما أثار مشهد المغنية ماري التي وقفت على نافذة قصر العدل الفرنسي، حيث سُجنت ماري انطوانيت وقطع رأسها إبان الثورة الفرنسية، حفيظة الكثيرين بأنه مشهد يتضمن الكثير من القسوة. لكن أليست هذه هي اللحظة الفارقة التي حولت باريس لأيقونة الثورة و الحرية، بعد خوض الشعب الفرنسي لمعركته الوجودية؟ التطرق لهذا الحدث الأساسي بتاريخ فرنسا في هكذا حفل هو عمل عبقري. وتذكير بأن التاريخ قد يُعيد نفسه وأن الفن سيظل شاهدًا على لحظات التحول الكبيرة في تاريخ الإنسانية.
البحث والحنين للأيقونات في ظل الهويات المتداخلة
في زمنٍ تلاشت فيه قوة الأيقونات التقليدية، صدحت سيلين ديون بصوت الأسطورة إديث بياف، مستحضرة حنيناً إلى زمن الأيقونات. في الوقت نفسه مغنية “الراب” الشابة آية ناكامورا تعرضت إلى حملة من الهجمات العنصرية من قبل أنصار اليمين المتطرف، حتى قبل أن يبدأ الافتتاح لمجرد معرفة أنها ستشارك فيه، فهل انتهى زمن الأيقونات؟
الأيقونات التي هي ليست مجرد رموز، بل أدوات للتغيير الاجتماعي والثقافي. من خلالها، يمكن للفنانين والمبدعين التعبير عن رؤى جديدة وإلهام الناس للتفكير بطرق مختلفة. هنا تكمن أهميتها، خاصة أننا نعيش في عصر تتداخل فيه الهويات وتتشابك بشكل غير مسبوق. الهوية الفردية لم تعد ثابتة أو محددة بعوامل معينة مثل العرق أو الدين أو الثقافة، بل أصبحت خليطاً معقداً من الانتماءات والخبرات الشخصية.
هذا التداخل يعكس تنوع التجارب الإنسانية وغناها، لكنه في الوقت ذاته يجعل من الصعب العثور على رموز أو أيقونات تتفق عليها الأغلبية. بحيث تكون بمثابة جسور تربط بين الهويات المختلفة، وتفتح المجال لحوارات بناءة تسهم بتشكيل مستقبل أكثر تنوعاً وشمولية وهذا هو التحدي الكبير.
مشهدية فنية خالصة.. ولكن!
لا يمكن لأحد أن يُنكر أن العرض الضخم الذي استمر لأربع ساعات، استطاع أن يجسد فلسفة تحويل اليومي والتاريخي إلى مشهدية فنية، قابلة للترويج والاستهلاك وللدعاية أيضاً. لم يُقدم فرنسا كمدينة الأضواء فقط، بل دعانا العرض لرؤية فرنسا الثورة، فرنسا المتنوعة عرقياً والجريئة في عرض تنوع الهويات الجنسية أيضاً. لكن مع طرح كل مفاهيم الحرية السابقة التي أكد عليها منظمو الحفل بأشكالها المختلفة، أتعجب من رفضهم حضور رياضية فرنسية مسلمة حفل الافتتاح كونها محجبة!