يشعر البعض ممن وصل إلى بلاد اللجوء بأنه يدخل متاهة كبيرة مرغماً. ولا يتوقّف عن الارتطام بجدرانها باحثاً عن طريق مفتوح يسلكه. وكثيراً ما يعود إلى البداية من جديد في كلّ مرة يظنّ فيها أنه اقترب من النهاية.
قد لا تتعلّق العوائق باللغة الصعبة وحدها، بل يكون الحاجز الحقيقي هو بالاختصاص نفسه. فكثير منا تركوا وراءهم عملاً ثابتاً طوّروه وصنعوا مستقبله (بقلع الضرس) كما يقال. لكنّ هذا العمل لا يتوافق مع سوق العمل في بلاد اللجوء أو يحتاج إلى سنوات، لا يملكها أغلبنا، للدراسة والتعديل. وهذا ما يدفعهم للبحث عن سبل جديدة تعيدهم إلى أول متاهة البحث عن عمل من جديد.
البحث عن عمل من جديد!
وتعتبر تجربة وفاء التي درست الهندسة المدنية وعملت بها كمهندسة سواء في مؤسسات الدولة أو في مكتبها الهندسي الخاص بسوريا. خير مثال على معاناة ذوي الخبرات هنا. فـ وفاء لم تتوقّف عن تطوير خبراتها واتّبعت دورات في المحاسبة وحجوزات الطيران واللغات لتستطيع العمل مساءً بعد ازدياد مصاريف الحياة. “في ألمانيا اتبعت دورة في اللغة الألمانية وحاولت الحصول على عمل يتناسب مع شهادتي الجامعية أو مع شهادات الخبرة التي أملكها”.
في البداية لم تكن وفاء ترغب بتغيير طبيعة عملها لكن مئات المحاولات اليائسة في التقديم لدى الشركات أجبرتها على التفكير بعمل آخر. “بالرغم من نقص العمالة في كل المجالات تيقنت أن العمر هنا مشكلة كبيرة. والشخص الذي فوق الخمسين تكون فرص عمله مستحيلة ومعدومة أيضاً”. “وجدت عملاً لا يمت لخبراتي ودراستي بصلة. وهو مرافق مدرسي”.
إرهاق واستنزاف للأعصاب!
لم يكن العمل كمرافقة للطلاب المهنة التي اختارتها وفاء، وهي المولعة بمادة الرياضيات والتي عملت كمهندسة تصمّم وتشرف على التنفيذ. بل كان عملاً متعباً يستنزف الأعصاب. خاصّة وأن هناك ضغطاً كبيراً يرافقه، ألا وهو قلّة الرواتب بالإضافة إلى عدم الاحترام والنظرة الدونية وخاصّة من أهالي الطلاب. ولا يمكن استثناء الزملاء الذين يتعاملون بعنصرية معها أيضاً “قد يمر اليوم دون أن يلقي أحد عليّ التحيّة، أو توجّه لي كلمة حتى. ويمكن أن أسمعهم يتهامسون عنّي”.
أما محمد الذي تنقّل بين عدّة مهن في سوريا، فلم تكن بدايته سعيدة هنا. بسبب تأخر حصوله على الإقامة لمدّة سنتين “لكن بعد أن حصلت عليها درست المستوى الأول من اللغة الألمانية. وعملت في عدة مهن أيضاً”. وحين فكّر باختيار مهنة أخرى واجه عائق اللغة الذي لم يساعده في دراسة اختصاص جديد تماماً بالنسبة له. فدخل سوق العمل الذي لم يكن سهلاً أيضاً. “بعد سنة من العمل مازالت صورتي بالنسبة لهم كشخص قادم من الشرق بشعر أسود وذقن طويلة وتفكير سلبي تجاه المرأة كزوجة أو مديرة في العمل”.
تجارب إيجابية مع مكتب العمل!
ولا تختلف قصة قيس الذي كان يعمل كرئيس شعبة الشبكات في المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي. فبعد رحلة اللجوء الصعبة وإجراءات لم الشمل ودراسة اللغة. باشر البحث عن عمل سواء باختصاصه أو في أي مجال يضمن له العمل بسرعة. لكن الموظّفة المسؤولة عنه في مكتب العمل أصرّت على أن يصبر وأن يعمل في مجاله الذي يمتلك فيه خبرة سنوات طويلة. “وفعلاً سهلت لي موضوع الحصول على فرصة Umschulung وكانت داعمة لي خلال الدراسة وبعدها حتى حصلت على عمل حقيقي “.
أما سوسن فقد درست الرياضيات النظرية والإحصاء الرياضي. لكنّها عملت كمديرة لروضة الأطفال التي أنشأتها. وحين وصلت إلى ألمانيا بدأت بالبحث عن خيار يناسبها ويمنحها المتعة بعد دراسة اللغة. ووقفت أمام خيارين ” كنت محتارة بين البرمجة وقيادة القطار. لأن هذا المجال لفت نظري وشعرت أنني سأستمتع به. فاعتبرت أن هذين المجالين سيكونان ممتعين لكن فكرة قيادة القطار رجحت عندي”. “مكتب العمل كان متعاوناً كثيراً ولم يعارض كلا الفكرتين. وبعد نقاش مع الموظّف المسؤول حول ظروف العمل قدّموا لي الأوراق المطلوبة للتسجيل”.
من عائق اللغة إلى التنمّر والعنصرية
وبينما كانت العوائق بالنسبة لسوسن في البداية تتعلّق بصعوبة اللغة. خاصّة وأن خيارها كان جديداً بشكل كامل، وبالتالي يحتاج إلى بذل جهد أكبر مع اللغة. “لكن كل شيء يحدث بالتدريج فما رأيته ضخماً وكارثياً في البداية، تقبلته مع الوقت”.
وجد قيس صعوبة كبيرة سواء في فترة التدريب أو في العمل “وخلال فترة تدريبي بالتحديد وبعد أن توظّفت وجدت أن الأمر ليس وردياً كما كنت أتصور. فنحن نحتاج إلى مثابرة وإثبات وجود دائم ناهيك عن مصاعب اللغة التي نعاني منها أو التنمر والعنصرية التي نصادفها دوماً ليس فقط في العمل وإنما خارجه أيضاً”. واللافت هنا وفقاً لقيس أن ٨٠٪ من هذا التنمر يأتي من المهاجرين وحتى من العرب أيضا.
مسارات جديدة
أما تهاما التي عملت في عدة وظائف ضمن اختصاصها كطبيبة أسنان وأخصائية في أمراض اللثة وجراحتها والتي تحمل شهادة ماجستير. فقد كانت تجربتها مختلفة! ورغم أنها أنهت مراحل اللغة الألمانية الأربعة ودورة لغة اختصاصية. وأتمّت تعديل شهاداتها الجامعية واجتازت المرحلة اللغوية إلا أنها لم تتابع “بعد أول خسارة”. وعملت خلال دراستها للغة كمحررة لمواد مترجمة في الحقل الأدبي من اللغة الألمانية إلى العربية. فوجدت في الترجمة “إثراء على الصعيد الشخصي”.
“زرت ورشات عمل في المجال القانوني المتعلق بشؤون المهاجرين الجدد. والصحة النفسية والدعم الاجتماعي للمجموعات ذوات الخلفيات المهاجرة. وحتى الساعة أعمل كمتطوعة في لقاءاتها الدورية. وورشات عن مفهوم ما بعد الصدمة والتعاطي معه بالتوازي مع زيارة ثلاثة مراكز للتوجيه المهني تباعاً. واستقرت بي الحال في العمل الاجتماعي كموظفة في مؤسسة تعنى برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة”.
القدرة على البدء من الصفر!
ولأنّ مهنة تهاما لم تكن المهنة الحلم بالنسبة لها، ولأنها لمست إمكانية الدراسة من جديد. زارت دورة تتعلق بتقدم ذوي الخلفيات المهاجرة للدراسة الجامعية. “انتقيت لنفسي فرعاً لا يزدحم بالراغبين بمهن مرموقة في سوق العمل، بل يجذب أصحاب الفضول المعرفي وهو الدراسات الإسلامية”.
لكن الطريق لم تكن ممهّدة أمامها. فـ “كل ميدان أطرقه بحاجة لتأهيل مناسب. وددت على سبيل المثال أن أزور مدرسة مرخصة في مدينتي لأتخرج منها كممارس للعلاج الطبيعي مع مرضى ما بعد الصدمة. ولم أستطع الحصول على التمويل رغم وجود فرص عمل متاحة لهذا التأهيل وبالتحديد مع الجهات المعنية بتقديم خدماتها للناطقين بالعربية”.
لم يكن مكتب العمل منفتحاً في البداية ولم يدعم خطوة التغيير. وأصرّ على ضرورة متابعة تهاما ضمن اختصاصها لأن طريقه أسهل. “لم أحصل على أي نوع من الدعم المادي لأدرس في أي قطاع. فكانت مهمتي أن أفتح الدروب لنفسي. ولا بأس بالتجربة بصورة عامة.. للبدء من الصفر متعة خاصة أيضاً. بالأخص إذا ما كان المرء معتاداً على الرفض أينما يمّم وجهه!”.