تعتبر مدينة هامبورغ ثاني أكبر مدن جمهورية ألمانيا الاتحادية، وسادس أكبر مدن الاتحاد الأوروبي من حيث عدد السكان. هامبورغ هي نفسها ولاية اتحادية “فيدرالية”، وواحدة من ولايات ألمانيا الـ 16، وصاحبة أهم وأكبر الموانئ الأوروبية. الاسم الرسمي للمدينة هو “مدينة هامبورغ الحرة الهانزية” والذي يدل على عضويتها بالاتحاد الهانزي خلال العصور الوسطى. لكن لماذا سميت هامبورغ بهذا الاسم، وماذا تعني كلمة “هانزية”؟
ما هي الرابطة الهانزية؟
الهانزية أو الهانزا هي تسمية قديمة تكتب بالألمانية “Hanse”. كلمة هانزية تعني الرابطة أو العصبة، وقد أُطلقت في البداية على مجموعات من التجار الألمان الذين يعملون خارج ألمانيا! والذين نشأت بينهم روابط للدفاع عن مصالحهم المشتركة في بلدان الاغتراب. لاحقاً أصبحت الهانزية تطلق على “الاتحاد” الذي ضم أهم مدن شمال ألمانيا القريبة من شواطئ بحر البلطيق وبحر الشمال. تلك الروابط المشتركة جعلت الاتحاد يُعتبر أكبر قوة اقتصادية وسياسية بشمال أوروبا خلال العصور الوسطى.
استمر عهد “الرابطة الهانزية” لمدة 500 عام تقريباً، ودام بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر. ضمت الرابطة في البداية ثلاث مدن ألمانية رئيسية هي: لوبيك وهامبورغ وكولونيا! وما لبث أن زاد عدد المدن المنضوية تحت لوائها حتى بلغ 80 مدينة في القرن الرابع عشر. شكلت هذه المدن نواة “الرابطة الهانزية”، ومن أهم المحطات التجارية التي أقامتها الرابطة الهانزية آنذاك كانت نوڤغورود في (روسيا). برگن في (النرويج)، لندن في (بريطانيا). وبروج في (بلجيكا).
تجارة البلطيق قبل الهانزية
كانت منطقة بحر البلطيق وبحر الشمال في ذلك العصر، مسرحاً للرحلات البحرية الاستكشافية والغارات وهجمات القراصنة. بعد العديد من تلك الغارات سيطر الاسكندنافيون على التجارة الدولية بمنطقة بحر البلطيق! وكان ذلك قبل ظهور الرابطة الهانزية. أسس الاسكندنافيون بحلول القرن التاسع الميلادي مراكز تجارية رئيسية بجزيرة بيركا السويدية. ومستوطنة الفايكينغ هايتابو وتحصينات دانيفيرك وشليسفيغ هولشتاين شمال ألمانيا. كانت الموانئ الهانزية اللاحقة بين مكلنبورغ الألمانية وكونيجسبيرغ -كالينينغراد حالياً – الواقعة شمال غرب روسيا، جزءا من نظام التجارة البحرية عبر بحر البلطيق الذي تتحكم به الشعوب الإسكندنافية بالكامل.
كيف سيطرت لوبيك على تجارة البلطيق؟
يُرجع المؤرخون أصول الرابطة الهانزية إلى إعادة بناء لوبيك شمال ألمانيا عام 1159 على يد دوق ساكسونيا وبافاريا هنري الأسد. الذي كان أحد أقوى الأمراء الألمان في زمنه! والذي حكم في ذروة نفوذه أراض شاسعة تمتد من ساحل بحري الشمال والبلطيق إلى جبال الألب. وذلك بعد أن انتزع السيطرة على المنطقة التي كانت تحت حكم كونت شاونبورغ وهولشتاين أدولف الثاني.
أدت إعادة بناء لوبيك لسيطرة المدن الألمانية على التجارة في بحر البلطيق! وأصبحت لوبيك حلقة الوصل في التجارة البحرية بين المناطق المحيطة ببحر الشمال وبحر البلطيق. وبلغت سيطرة لوبيك على التجارة أوجها خلال القرن الخامس عشر.
تأسيس الرابطة الهانزية
بدأت فكرة إطلاق الرابطة الهانزية بالقرن الثاني عشر، أي مع إعادة بناء مدينة لوبيك شمال ألمانيا عام 1158 م. تلاها تأسيس رابطة “تجار الامبراطورية الرومانية” التي كانت تضم مناطق إقليمية كبيرة حول البحر الأبيض المتوسط! في أوروبا وشمال إفريقيا وغرب آسيا ويحكمها الأباطرة. سرعان ما استقر تجار الامبراطورية الرومانية الألمان في مدينة ڤيسبي عاصمة جزيرة جوتلاند. الجزيرة السويدية الواقعة في بحر البلطيق. بعد وقت قصير سيطر التجار الألمان على السوق الروسية الضخمة في نوڤكورود. إحدى مدن روسيا في الكيان الفيدرالي الروسي، مما دعا أمير كييڤ إلى عقد معاهدة معهم تمنحهم كثيراً من الامتيازات.
تحالف مدن الرابطة الهانزية
اكتسبت مدينة لوبيك امتيازات إمبراطورية كبيرة حتى غدت مدينة إمبراطورية حرة، مثل مدينة هامبورغ! ولضمان الحماية لتجار الرابطة الهانزية تحالفت مدينة لوبيك وهامبورغ تجارياً في عام 1241. ثم انضمت إليهما مدن أخرى تقع على بحر البلطيق وبحر الشمال مثل مدينة بروج البلجيكية. تمتعت مدينة لوبيك بإمكانية الوصول إلى مناطق الصيد في بحر البلطيق والشمال. في حين تحكمت هامبورغ بطرق تجارة الملح القادمة من لونيبورغ. وهكذا سيطرت المدينتان المتحالفتان على معظم تجارة الأسماك والملح في الشمال.
انضمت مدينة كولونيا للتحالف عام 1260. وفي ذلك الوقت استطاع تجار “الرابطة الهانزية” في كولونيا اقناع ملك إنجلترا هنري الثاني بأن يلغي الرسوم المفروضة عليهم في لندن! والسماح لهم بالتجارة في جميع أنحاء المملكة. عام 1266 منح ملك إنجلترا هنري الثالث لوبيك وهامبورغ ميثاقاً لتسهيل العمليات التجارية في عموم إنجلترا! لتشكل المدن الثلاث بعدها أقوى رابطة تجارية في لندن.
التوسع التجاري للرابطة الهانزية
أتاح موقع لوبيك المميز على بحر البلطيق الوصول إلى طرق التجارة مع اسكندنافيا وروسيا. ما جعلها في منافسة مباشرة مع الدول الاسكندنافية التي كانت تسيطر في السابق على معظم طرق التجارة في منطقة البلطيق. لكن الاتفاقية التي وقعتها مدن الرابطة الهانزية مع فيسبي عاصمة جزيرة جوتلاند السويدية أنهت هذه المنافسة. إذ تمكن تجار لوبيك بفضل هذه المعاهدة من الوصول إلى ميناء نوفغورود الروسي، وبنوا مركزاً تجارياً هاماً هناك. على الرغم من أن مثل هذه التحالفات تشكلت في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية المقدسة، لم تصبح الرابطة الهانزية منظمة رسمية آنذاك! وكانت جمعيات المدن الهانزية تجتمع بشكل غير منتظم في لوبيك لحضور “يوم الرابطة الهانزية” كل عام. لكن العديد من المدن الأخرى اختارت عدم الحضور، وكانت القرارات الصادرة عن الاجتماع غير ملزمة للمدن. رغم ذلك زادت وتيرة التحالفات لتشمل الرابطة الهانزية في النهاية ما بين 70 و170 مدينة.
نجحت مدن الرابطة بإنشاء مراكز تجارية إضافية في بروج البلجيكية وبيرغن النرويجية ولندن البريطانية. وتأسس المكتب التجاري الخاص بالرابطة في لندن عام 1320 غرب جسر لندن بالقرب من شارع التايمز. وتطور المكتب ليصبح مُجمَّعاً تجارياً كبيراً مع مستودعاته الخاصة ومكاتبه. ما عكس ازدهار النشاط التجاري فيه.
نهضة شمال ألمانيا
كان للرابطة الهانزية تأثير هام في ظهور وتطور التجارة والصناعة في شمال ألمانيا! ومع زيادة حجم النشاط التجاري صُنعت الأقمشة الصوفية والكتان والحرير في مدن الشمال الألماني. كذلك حدثت نهضة في صناعة منتجات نحت الخشب والدروع وسباكة المعادن. احتكار الملاحة البحرية والتجارة من قبل الرابطة الهانزية على مدار 100 عام تقريباً! أدى لظهور النهضة الصناعية والتجارية في شمال ألمانيا قبل فترة طويلة من بقية أجزاء أوروبا. تاجرت مدن الرابطة بالأخشاب والفراء والقطران والكتان والعسل والقمح والحبوب القادمة من الشرق. والأقمشة والسلع المصنعة من إنجلترا، والمعادن الخام كالنحاس والحديد من السويد. استوطن المهاجرون الألمان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في العديد من المدن الواقعة على ساحل بحر البلطيق الشرقي. والتي أصبحت أيضاً أعضاء في الرابطة الهانزية، ولا يزال بعضها يحتفظ بالعديد من مباني الرابطة وتقاليدها حتى الآن.
تقيَّدت هذه المدن بقانون لوبيك الذي ينص على الاحتكام لمجلس مدينة لوبيك بجميع الخلافات القانونية. انضمت أغلب المدن الرئيسية في لاتفيا وإستونيا إلى الرابطة الهانزية. كانت اللغة المهيمنة على التجارة بين مدن الرابطة هي الألمانية الدنيا الوسطى! وهي لغة قديمة انحدرت من اللغة السكسونية القديمة، حيث كانت تلك اللغة هي لغة التواصل المشترك في الرابطة الهانزية.
العصر الذهبي للرابطة الهانزية
بدأت معظم مدن الرابطة الهانزية كمدن مستقلة، أو حصلت على استقلالها لاحقاً، رغم أن هذا الاستقلال كان محدوداً نسبياً. كانت المدن الحرة الهانزية تدين بالولاء المباشر للإمبراطور الروماني المقدّس. ومن أوجه التشابه بين هذه المدن هو مواقعها الاستراتيجية على طول طرق التجارة البحرية. نجح تجار الرابطة الهانزية في استخدام قوتهم الاقتصادية وفي بعض الأحيان قوتهم العسكرية للتأثير على سياسة الإمبراطورية! خصوصاً عندما كانوا في أوج قوتهم أواخر القرن الرابع عشر.
لم تكتفي الرابطة بذلك بل أصبحت تمارس نفوذها العسكري الخارجي. إذ شنت مدن الرابطة الحرب على الدنمارك بين أعوام 1361 – 1370! ورغم أنها لم تنجح في البداية لكنها تمكنت بعد تحالفها مع كولونيا في عام 1368 من احتلال كوبنهاغن وهلسنغبورغ. تم بعد ذلك إجبار فلاديمير الرابع ملك الدنمارك. وصهره هاكون السادس ملك النرويج على منح الرابطة 15% من أرباح تجارة الدنمارك! وذلك من خلال معاهدة سلام وقعت في سترالسوند الألمانية وذلك في عام 1370. وبالتالي تمكنت الرابطة من احتكار التجارة والاقتصاد بشكل شبه كامل في الدول الإسكندنافية.
مثَّلت تلك المعاهدة فترة الذروة للقوة الهانزية، وبعد الحرب الدنماركية الهانزية التي وقعت بين عامي 1426 و1435. وقصف كوبنهاغن عام 1428، جددت معاهدة فوردينغبورغ الامتيازات التجارية الهانزية في عام 1435.
الاضمحلال الهانزي
بلغت الرابطة الهانزية أوج قوتها وازدهارها من نهاية القرن الثالث عشر إلى نهاية القرن الخامس عشر. وعاشت مرحلة ازدهار ثانية في النصف الثاني من القرن السادس عشر. إلا أن نجمها بدأ بالأفول وتحدد مصيرها وبدأت تفقد امتيازاتها ومكانتها ومرتكزات وجودها. كانت هناك مجموعة من العوامل أدت إلى اضمحلالها وانهيارها، تتمثل في تنامي القوة البحرية لإنكلترا وهولندا والدنمارك. وانسحاب المدن الهولندية من الاتحاد ومنافستها له بنهاية القرن الخامس عشر. وازدياد قوة أمراء الأقاليم الألمانية الذين أرغموا مدنهم على الانسحاب من الاتحاد. عدا عن انهيار قوة “فرسان التويتون” وهم مؤسسو الدولة الصليبية على طول ساحل بحر البلطيق والتي كان مقرها في بروسيا! وكذلك التوسع الروسي في حوض البلطيق الشرقي. كل تلك العوامل أدت لكتابة نهاية حقبة الرابطة الهانزية.
أخيراً جاءت حرب الثلاثين عاماً التي جرت وقائعها بين عامي 1618 و1648. على أراضي ألمانيا والتي تدخلت فيها معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر! وكان سبب اندلاع الحرب أساساً هو الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت. تلك الحرب سببت معاناة كبيرة لكل المدن الألمانية وأوقفت تجارة بحر البلطيق! مما أدى إلى دمار الرابطة الهانزية، التي عقدت آخر اجتماع لأعضائها عام 1669.
وهكذا انتهى اتحاد الرابطة الهانزية، الذي كان أشهر اتحاد أسسته مدن أوروبا التجارية الصاعدة! وأكثرها ثباتاً واستمراراً خلال العصور الوسطى. بالرغم من كل ذلك بقيت ذكرى الرابطة الهانزية حية حتى يومنا هذا! إذ لاتزال ثلاثة من أهم مدن ألمانيا التي تتمتع بالحكم الذاتي وهي هامبورغ وبريمن ولوبيك تفخر بماضيها وتسمي نفسها بالمدن الهانزية الحرة.
- المصادر:
ويكيبديا
BBC - Photos: Mutaz Enjila