اختتمت اليوم الجلسة الأولى من محاكمة أنور رسلان وإياد غريب، المسؤولان السابقان بمديرية المخابرات العامة في سوريا، واللذان يمثلان أمام المحكمة الإقليمية بمدينة كوبلنز جنوب غرب ألمانيا، وهي أول محاكمة لجرائم حرب تتعلق بتعذيب “الدولة الممنهج في سوريا” منذ بدء النزاع قبل تسع سنوات.
الجلاد بثوب لاجئ!
رسلان 57 سنة، متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تشمل قضايا اغتصاب واعتداء جنسي و58 جريمة تعذيب أدت للموت في الفرع 251 “فرع الخطيب” في دمشق، حيث أشرف كضابط مخابرات على تعذيب 4000 شخص على الأقل، بين 29 أبريل/ نيسان 2011 و7 سبتمبر/ أيلول 2012. من التهم الموجهة ضده: تعليق السجناء من معاصمهم، الصعق بالكهرباء، الضرب حتى فقدان الوعي، إخضاع السجناء لطريقة تسمى الدولاب! أما إياد الغريب 42 سنة، فكان يعمل بنفس الفرع تحت أمرة رسلان، وكان مكلف باحتجاز المتظاهرين، ومتهم بالمساعدة في التعذيب والقتل في 30 قضية. رسلان وغريب قدما طلب اللجوء سياسي في ألمانيا قبل سنوات، لكنهما على عكس معظم أولئك الذين يلتمسون اللجوء، كانا يومًا ما جزءًا من آلية القمع التي تمارسها الدولة، وإن كان كلاهما انشق عن النظام.
وجوه العدالة.. والحقوق التي لا تموت
حسين غرير، أحد المدعين المشاركين بالادعاء على رسلان وغريب، لم يتمكن من منع نفسه عن اجراء المقارنة بين المحاكمات الصورية التي تقام بسوريا، وما يحدث هنا في كوبلنز الآن، يقول لأمل برلين: “سمعت كثيراً عن المحاكمات العادلة، لكن هذه هي المرة الأولى التي أراها، عندما كانت القاضية تقوم بسؤال المتهمين إن كانوا يستمعوا إلى الترجمة بشكل واضح، وإن كانا قادرين على التواصل مع المحامين الموكلين للمرافعة عنهما، في حين أثناء اعتقالنا في سوريا، كنا مجردين من حقوقنا ومنتهكي الكرامة، معصوبي العينين! لم أتوقف لحظة عن اجراء المقارنات وانا داخل المحكمة هنا، بين مايحدث الآن وما عشناه نحن”.. غرير جزء من هذه الدعوة، فقد أُعتقل مرتين، وهذه المحاكمة لها علاقة باعتقاله الأول في فرع الخطيب، والذي استمر لشهر ونصف، بينما الاعتقال الثاني والذي استمر لثلاث سنوات ونصف لم يكن في فرع الخطيب، وبالتالي ليس له علاقة بهذه المحاكمة، يقول غرير: “نحن نسعى لكشف الحقائق عن التعذيب الممنهج في سوريا، والذي مازال حتى الآن يُمارس على المعتقلين في السجون السورية، والحقيقة أنها لا تكشف إلا من خلال محاكمة عادلة”.
ألمانيا وقوانين محاسبة مرتكبي جرائم الحرب
رغم ارتكاب الجرائم خارج ألمانيا، ولأشخاص لا يحملون الجنسية الألمانية، إلا أن المحاكمة التي بدأت فصولها في كوبلنز اليوم، تندرج ضمن إطار المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية على الجرائم ضد الإنسانية، والذي شُرع في ألمانيا عام 2002، مما يسمح بمتابعة الجرائم الخطيرة في محاكم ألمانيا، حتى لو وقعت تلك الجرائم في مكان آخر خارج البلاد. ومع تقدم آلاف اللاجئين السوريين بطلبات لجوء في ألمانيا بين 2015 و2017، تلقت السلطات الألمانية أكثر من 2800 تلميح حول الجرائم التي يُزعم أنها ارتكبت في ظل نظام بشار الأسد، وفي حالة رسلان وغريب، تحدث الرجلان صراحة عن عملهما في فرع الخطيب عند مقابلتهما للمسؤولين الألمان، ولم يحاولوا إخفاء دورهم بالقمع العنيف للمعارضة السياسية، حيث فرّ رسلان من عباءة النظام عام 2012، بعد أن ارتكبت القوات الموالية للأسد مذبحة في بلدته، وسعى للجوء في ألمانيا في عام 2014.
يدعم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان”ECCHR” الناجين السوريين من التعذيب الذين شاركوا في الدعوى، وقد استمع مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية بالفعل إلى 16 سوريًا يخضعون لرعاية لجنة حقوق الإنسان الأوروبية، في سياق تحقيقات المدعي العام الاتحادي. تسعة منهم أرادوا الانضمام إلى الإجراءات كمدعوين مشاركين، كما أن ستة سوريين تعرضوا للتعذيب في الفرع 251، مُنحوا الحق في المثول أمام المحكمة بصفتهم مدعين مشاركين.
مجريات الجسلة الأولى
محامية حقوق الإنسان جمانة سيف، التي نفيت من دمشق عام 2012، وبحثت الجرائم الدولية لصالح “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” تقول عن مجريات الجلسة الأولى: “تمت قراءة التهم من قبل الادعاء، ونتائج التحقيقات، كيف جرت الاعتقالات في سوريا حتى من قبل الجيش وظروف الاعتقال والتعذيب الممنهج، وذكرت أسماء المدعين جميعاً، بعد ذلك أُعطي مجال لمحامي كل متهم إن ارادوا تقديم مداخلاتهم، محامي أنور رسلان لم يقدم شيء، أما محامي اياد الغريب قدم ورقة يشرح فيها دور الغريب حين تم اعتقاله وكيف أدلى بشهادته للشرطة التي تمت الاستفادة منها في ادانته لاحقاً. ستقام الجلسة الثانية غداً صباحاً في الساعة 8:30 حيث سيتم الإستماع للشهود ولعناصر وحدات التحقيق بالجرائم الدولية الذين قابلوا جميع الشهود في هذه القضية وأخذوا إفادتهم”.
المحاكمة رسالة أمل للمدعين وأهالي الضحايا
قدمت جلسة المحاكمة الأولى الأمل، فقد شعر الشهود والمدعين والضحايا، أنهم ليسوا لوحدهم، وأنهم يمثلوا عشرات الآلاف من الناس الذين عاشوا هذه الألم، تؤكد سيف: “هذه خطوة مهمة على مستوى معرفة الحقيقة، وأن يتم فضح التعذيب الممنهج الذي مارسه النظام السوري، ومعرفة من أعطى الأوامر، بغض النظر عن كيفية انتهائها، ففي الفترة التي كان يعمل فيها رسلان في فرع الخطيب، كان هناك 4000 حالة تعذيب و58 حالة تعذيب أدت للموت، في دمشق بين أبريل 2011 وسبتمبر 2012، وموظفه إياد غريب متهم بالمساعدة والتحريض على التعذيب في 30 حالة على الأقل.. أنا متأكدة أن طريق العدالة طويل، لكنه ضروري حتى لا تمر تلك الجرائم الجسيمة بلا عقاب، وأن تتم محاسبة مرتكبيها، فكل ما تبقى للناجين وأقارب الضحايا هو هذه العملية القانونية، ذلك لا يعني الانتقام، بل احترام ما عانوه”.
كيف بدأت الحكاية وإلى أين ستصل؟
قدم أنور رسلان طلب حماية بمركز شرطة برلين في فبراير 2015، خوفاً من عملاء المخابرات السورية والروسية في المدينة، ليتم القبض عليه في فبراير 2019. كما منح غريب المحققين الألمان معلومات أكثر مما كانوا يتوقعون، عندما تمت مقابلته لدراسة طلب لجوئه بألمانيا في صيف 2018، وقال بحرية أنه عندما كان في دمشق، ساعد السلطات هناك على اعتقال المتظاهرين والأشخاص الذين يلتقطون صور الاحتجاجات بهواتفهم، والذين تم نقلهم إلى الفرع 251! وزعم أنه غادر في يناير/ كانون الثاني 2012 لأنه طُلب منه قتل المدنيين، ولأن ثلاثة من زملائه ماتوا في اشتباكات مسلحة بالقرب من دمشق.
أدت معرفته بإجراءات المخابرات السورية إلى استجوابه للحصول على المزيد من المعلومات في البداية كشاهد! لكن أعيد تصنيفه كمشتبه فيه بعد أن كشف عن معرفة تفصيلية للغاية بأساليب التعذيب، بما في ذلك استخدام الغلايات لحرق ظهر الضحايا، وكسر أرجل المعتقلين بقضبان حديدية لمنعهم من المشاركة في المظاهرات المستقبلية! أفرج عن غريب لفترة وجيزة، لكن المحكمة الاتحادية العليا رفضت خطوة الإفراج هذه في يونيو/ حزيران الماضي. حقيقة أن غريب لم يحاول الفرار من السلطات الألمانية في هذه الأثناء، من المرجح أن يحسب لصالحه في المحاكمة، لكن من غير الواضح حتى الآن، ما إذا كان رسلان وغريب سوف يقران بالذنب أم لا.. محاكمة هؤلاء في كوبلنز تأتي ضمن سلسلة ملاحقة مرتكبي التعذيب الممنهج في سوريا، والتي تحقق فيها المفوضية الأوروبية وتتابعها مع نحو 50 سوريًا من الناجين وأقاربهم وناشطين ومحامين، في كلٍ من ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج منذ عام 2016.