من الواضح أن هناك توجه دولي حازم لمحاربة العنصرية، التي تعد من الأشكال الأكثر تطرفاً للتمييز كونها تمنع شرائح مختلفة في المجتمع من الحصول على حقوقها بشكل متساوي، ويختلف التعبير عن العنصرية على المستويين الشخصي والعام، وغالبا يتم تعزيزها من خلال نشر خطاب التحريض والكراهية ضد كل ما هو مختلف، وتبرير العنف، سواء اللفظي أو المعنوي أو الجسدي.
لكن هل فكرنا كيف تبدأ هذه العنصرية وكيف تنتشر؟ في العادة، تبدأ العنصرية بشكل ناعم نتيجة لتكريس معتقدات وأقوال تعطي أفضلية لبشر عن بشر، تنتشر هذه الأقوال والمعتقدات لتصبح بعد وقتٍ ما قَصُر أم طال، شبه مُسلمٍ بها من قبل عدد كبير من الناس، بل قد يتم تقنينها!
تستطيع العنصرية في بدايتها اقناعنا بأنها ليست كذلك، يتوهم كثيرون أن العنصرية الحقيقية هي في الممارسات والإساءة والتعامل مع الآخرين بدونية، وأنه يمكن لأحدنا الاعتزاز بعرقه أو مكانته أو نوعه أو لونه أو حتى بمكان نشأته دون قلق! وفي الحقيقة إن تعزيز مثل هذه المعتقدات وجعلها معيار للتعامل مع الآخرين هو أساس العنصرية المقيتة ومنبعها.
لا شك بأن العنصرية مشكلة ومرض يجب التخلص منه، لكن من منا يجرؤ على أن يسأل نفسه: هل نحن عنصريون؟
هل لدينا الجرأة لنسأل كيف كنا نتعاطى مع العنصرية في بلداننا؟ الرد على هذه الاسئلة سيجعلنا ندرك أنه كان بإمكاننا القيام بفعل ما يساهم بتجنيب بشر مثلنا معاناة لم يكن يفترض أن يعيشونها؛ وهي المعاناة نفسها التي نريد من العالم عمل شيء ما لكي لا نعيشها.
نعاني كعرب من إرث ثقيل من العنصرية، وجهود التخلص من هذا “العار” تكاد تكون شبه منعدمة، إذ لا تزال بعض الدساتير والقوانين المعمول بها حتى اليوم تكرس التمييز دون أي خجل! إلى جانب أننا مقيدين بعدد مهول من الموروثات الاجتماعية والثقافية التي تحكم تعاملنا مع المحيطين بنا، وترسم لنا شكل هذا التعامل.. وهي بالمناسبة موروثات مليئة بالتمييز العنصري.
شخصيًا عشت أيامًا وذكريات سيئة مع العنصرية والتمييز، لكنني لم أستسلم، فقد واجهت بطرق وأدوات كثيرة، لم يكن العنف إحداها، فخلال سنوات تمتد ما بين 2005 و2016، كنت وقتها فتاة طموحة ونشيطة – عملت في أكثر من مجال: موظفة في وزارة الثقافة، موظفة منتدبة باتحاد الادباء والكتاب اليمنيين، معدة ومقدمة برامج وثائقية وثقافية وسياحية في التلفزيون.. هذا الأخير، كان عملاً مرهقًا، عانيت بسببه من آلام شديدة في الظهر، إذ كان ضروريا عند تصوير الحلقات تواجُدي مع طاقم العمل طيلة اليوم، ولمدة أربعة ايام متواصلة! في البداية كنت لا أزال طالبة في قسم الفلسفة بالجامعة، وقد استطعت بصعوبة وبالكثير من الجهد أن أحقق حضورا عمليا وثقافيا، إلى جانب الالتزام بالدراسة.
في 2011 أسست مؤسسة حقوقية وثقافية اسمها (صوت)، وقد حققت هذه المؤسسة حضورا متميز لتناولها الكثير من القضايا الجريئة على المستويين الاجتماعي والسياسي. غير أن ذلك لم يشفع لي، واختبرت مرارة العنصرية القائمة على أساس الحالة الصحية مرتين على الأقل! الأولى عندما حصلت على ترقية في العمل، والثانية عندما تم اختيار عملي التلفزيوني للمشاركة بمهرجان مرموق.. في المرتين سمعت من يقول إن ما حققته كان بسبب التعاطف معي لأني “معاقة”! كان أمرًا مثيرًا للدهشة وللقرف في آن معًا، وقد شعرت بالإهانة، وتساءلت في نفسي، ألم يلاحظ أحد الجهد الذي بذلته؟!
أعرف أيضا كُثر ممن تعرضوا للعنصرية واستطاعوا التغلب عليها، لكن مؤخرًا بدأت أعي أنه لا يجب أن نكتفي بهذا، بل يجب أن نحارب العنصرية بكل أشكالها، وأن ننشر وعيا بخطورتها على الأمم وعلى التنمية ومستقبل البشرية، إذ تحبط الممارسات العنصرية جزء كبير من الناس وتجعلهم يحجمون عن القيام بأداء أدوارهم في المجتمع.
هذا الوعي جاء بعد ان اضطررت للهجرة واللجوء إلى ألمانيا، فبحكم اختلاف الثقافة وحاجز اللغة الذي يجعل الكثير من الآراء تصل بشكل يساء فهمها أحياناً، وأحياناً أخرى تجعلنا نصطدم بمواقف لا نستطيع أمامها الدفاع عن أنفسنا، أو إزالة سوء الفهم، فإننا نواجه شبح العنصرية بشكل شبه يومي، إما بقصد أو بدون قصد.. (يتبع)
- مقال لـ سماح الشغدري
شاعرة وكاتبة وإعلامية من اليمن
Photo: